غسان العياش
عبّرت القوى السياسية المكوّنة للحكومة عن كرم أخلاق استثنائي. أوقفت تعطيل القرارات للحظة وسمحت بمرور قرارات، بينها تعيين لجنة الرقابة على المصارف.
لجنة الرقابة هي عنصر حيوي وأساسي في بنيان القطاع المصرفي في لبنان، بل في نظامه المالي برمته. مهمّتها أن تواكب النشاط المصرفي يوماً فيوماً، بأدق تفاصيله. إنها جهاز أمان لسلامة المدَّخرات، ويفترض أنها جهاز إنذار مبكر يرصد الأزمات المصرفية وهي في مراحلها الجنينية. إنها جهاز للوقاية قبل أن تكون وسيلة للعلاج.
تعيين لجنة الرقابة مسألة بديهية وتأخيره هو خارج التصوّر في أي مجتمع طبيعي. لا يمكن التفكير أن حكومة عاقلة يمكن أن تُغْمِضَ بيديها، عن سابق تصوّر، العين الساهرة على مدَّخرات اللبنانيين وطريقة توظيفها. إلا أن ما شهدناه في لبنان من تصرّفات تدميرية لغايات سياسية، لا سيما في الآونة الأخيرة، جعل الأوساط المصرفية والاقتصادية ترتاب في ما يمكن أن تفعله الحكومة، أو بعض الحكومة. فإفراغ المواقع الحساسة أو تعطيلها هما سلاحان رائجان في يد السياسيين المتحاربين.
كما ذكرنا في هذه الزاوية من قبل، أعطي الفراغ وتعطيل القرارات وظيفةً سياسية وأسبغت عليهما مشروعية مزوّرة. فقد قيل، بل ويقال، إنه لا يجوز تمرير القرارات بسهولة مها تكن حيويّة، ولا السماح لآلة الدولة أن تقوم بوظائفها العادية في خدمة المجتمع، خشية أن تعتاد البلاد على الفراغ الرئاسي. هذا ما يقوله الذين يعطلون الانتخابات الرئاسية (!!!).
بالعودة إلى تعيين لجنة الرقابة، اختارت الحكومة رئيساً لها السيد سمير حمّود، وهو مصرفي مخضرم ورجل عصامي جاهد سنوات طويلة حتى بنى لنفسه خلفية علمية رفيعة وتجربة مصرفية ممّيزة وسمعة أخلاقية ممتازة. الذين يتبوأون مراكز رفيعة في القطاع العام يعود الفضل في تعيينهم لأشخاص أو مرجعيات سياسية، أما سمير حمّود، وإن رشحته جهّة معيّنة، فالفضل الأوّل في تعيينه هو لكفاءته ونزاهته.
والأمل أن يتمكن الرجل مع زملائه من تطوير دور اللجنة.
منذ نهاية الحرب الأهلية وحتى الآن تطوّر عمل لجنة الرقابة كثيراً، خصوصاً أن الحرب المشؤومة انتهت بإفلاس ما لا يقلّ عن خمسة عشر مصرفاً، في السنوات الأخيرة منها فقط. فاضطرت اللجنة منذ بداية التسعينيات إلى تطوير أدوات عملها ووسائل مراقبتها بشكل كبير، تلافياً للعودة إلى الظروف السابقة التي ساهم فيها ضعف الرقابة، بل غيابها في بعض الأحيان. باتت تطلب من المصارف كمية لا حصر لها من الإحصائيات والأرقام، وتفرض عليها تطبيق تعليمات تفصيلية تزداد كل يوم. ضاعفت اللجنة عدد موظفيها مراراً واستعملت تكنولوجيا المعلومات على نطاق واسع لقراءة الإحصائيات والمؤشرات وتحليلها.
وبعدما كانت المهنة المصرفية في لبنان غائبة عن الحد الأدنى من الالتزام بالمعايير المطلوبة دولياً، باتت مصارف لبنان تواكب تطوّر الأنظمة والمعايير الدولية، بفضل التعاون بين المجلس المركزي ولجنة الرقابة.
مصرفي كبير راحل، كان له تأثير على جزء من تجربة سمير حمّود المهنية، انتقد قبل عقدين إفراط اللجنة في طلب الإحصائيات واقتصار دورها على الغوص في بحر الأرقام وتحليلها. كان يقول: من يقضي وقته بالتجوّل بين الشجر لا يستطيع رؤية الغابة ككل.
هذه هي الملاحظة الأساسية الوحيدة على الطريقة المتبعة في الرقابة على المصارف. إنها تعنى بكل مصرف على حدة وأحياناً كل حساب مدين على حدة، ولكنها لا تعطي الرأي العام أو السلطة النقدية، على الأقل، خلاصات كلية عن الوضع المصرفي برمته.
الوضع المصرفي اللبناني ليس مقلقاً، لسبب رئيسي هو استئثار الدولة مع مصرف لبنان بالقسم الأعظم من توظيفات المصارف. ولكن الخبرة التي تكتسبها اللجنة من خلال اطلاعها اليومي على «بحر التفاصيل» يخوّلها استخلاص القوانين العامّة التي تحكم آلة النظام المصرفي برمته، ولو كانت المخاطر تحت السيطرة.
هناك عناصر مؤثرة في نظامنا المصرفي لا تظهر من خلال الأرقام وحسب، بل من خلال معايشة اللجنة لواقع الإدارة المصرفية والانطباعات التي تكوّنها عنها.
ما هي الخلفية الشخصية للقيّمين على إدارات المصارف؟ هل هناك مؤسّسات مصرفية بالفعل أم أن أشخاصاً يقودون النشاط المصرفي، كلا على هواه، برغم اللجان المتخصّصة التي يفرض مصرف لبنان إنشاءها في كل مصرف على حدة؟ ما هي فعالية هذه اللجان على أرض الواقع، وليس على الورق؟ هل نسبة الانتشار المصرفي اللبناني في الخارج مناسبة لبلد سلطته السياسية المركزية ضعيفة ومفككة؟ هل تستطيع المصارف اللبنانية أن تبذل جهداً أكبر، برغم الظروف، لتوسيع تسليفاتها للقطاع الخاص وتقليص تمويلها للقطاع العام؟ إلى أسئلة أخرى ذات طابع تقني لا يتسع لها المجال هنا.
هذا غيض من فيض المواضيع الحيوية التي لا يستطيع أحد أن يسلط الضوء عليها إلا لجنة الرقابة على المصارف.
نضوج تجربة الرقابة المصرفية في لبنان، بعد نصف قرن، بات يفترض ألا تكتفي اللجنة بالتقارير الإفرادية عن المصارف، بل أن تقدّم سنوياً تقارير وملفات بالمواضيع العامّة والكلية ذات الحساسية والتأثير على النظام ككل، يُعلن بعضها ويبقى البعض الآخر ضمن جدران مصرف لبنان.