القول أن واقع الأدوية وإمكانيات الوصول للعلاج والطبابة في الغوطة الشرقية هو واقع شبه كارثي، أمر لا ينطوي على تضخيم. والحال أن الدواء تحول في ظل الحصار الى مادة محتكرة، تخضع بشكل أساسي للمعايير الربحية التجارية. فبحسب إحصائية لشبكة شام الإخبارية، سقط خلال شهر واحد 216 قتيلا من بينهم 150 طفلا بسبب نقص المواد الطبيّة والغذائية.
بعض الحلول البديلة يتم اللجوء اليها لتأمين العلاج للمرضى. فيتم مثلاً تصنيع بعض الأدوية داخل الغوطة الشرقية، وذلك في معمل وحيد يعجز عن تغطية إحتياجات سكان هذه المنطقة. كما تقتصر منتجات هذا المعمل فقط على بعض المسكنات والمضادات الحيوية والأدوية البسيطة التي لا تلتزم شروط الإنتاج النظامية والمعايير الدولية. وينتج المعمل حوالي 25% من أصناف الأدوية الضرورية، وذلك بسب صعوبة إدخال المواد الأولية، بالإضافة الى عدم توافر الخبرات اللازمة.
أمام هذا الواقع المعزز لإمكانية الإحتكار، تصل أسعار بعض الأدوية داخل الغوطة الشرقية إلى 500% من سعرها خارجها. يشرح “أبو حسام”، أحد اصحاب الصيدليات غير الحاملين لشهادة صيدلة”، لـ “المدن”، أن سعر الدواء بات يوازي ما بين ثلاثة أضعاف حتى عشرة أضعاف سعره خارج الغوطة. ويرد أبو حسام السبب الى عوامل عديدة. أولها، “تكاليف إدخال الدواء الى الغوطة من قبل المهربين، وبشكل خاص قيمة الأتاوات المفروضة عليهم من قبل حاجز النظام” المعروف بحاجز الملايين. والأتاوة هي قيمة من المال يفرضها الحاجز على دخول البضائع عبره الى داخل الغوطة.
ما يعزز هذا التسيب، هو غياب الروادع بالمطلق. فلا تحديد لأسعار الدواء – مثلاً – في ظل واقع يتعامل مع الصيدلية كدكان البقالة. فيقوم نتيجة ذلك أي شخص بفتح صيدلية، بغض النظر عن أصل عمله أو اختصاصه. ببساطة تحول الدواء الى سلعة ربحية، ولم يعد بأي شكل ذا قيمة إنسانية مرتبطة بحياة الإنسان وصحته.
أما عن العوامل الأخرى المؤثرة في سعر الدواء، فتتلخص بـ “ندرة بعض أصناف الأدوية في مصادرها داخل دمشق”. ذلك أن العاصمة نفسها فقدت الكثير من معامل الأدوية بعد أن أغلق بعضها، فيما يواجه بعضها الآخر مشاكل مالية تتعلق بالاستيراد وتقلب سعر الدولار. وما يراكم الندرة، وفقاً لأبو حسام، “سلوك النظام المتمثل بإعتقال أي شخص تحوم حوله الشكوك أنه يعمل في مجال الإغاثة ونقل الأدوية الى المناطق المحاصرة.
وتُكسب هذه التجارة ممتهنها أرباحاً هائلة داخل مناطق الحصار في الغوطة الشرقية. لكن بالرغم من ذلك، قلة هم الذين يجدون تجارة الأدوية وتهريبها عملا مغريا. وهنا يظهر الوجه المضحك المبكي لهذه التجارة، ذلك أنها ترتبط بتغير سعر الدخان (التبغ) الذي يؤثر بشكل مباشر على حركة تهريب الدواء الى الغوطة. وبهذا المعنى يؤدي انخفاض سعر الدخان الى تقليص نسبة تهريب الأدوية على حساب زيادة نسبة تهريب الدخان.
في المرحلة السابقة لدخول الجيش الحر والألوية المسلحة الى الغوطة كان يوجد في المنطقة مستودع أدوية استراتيجي للنظام، هو مستودع الـ Gota أو “الغوطة”، بالإضافة الى معمل لإنتاج الأدوية. كان المستودع يحتوي – بالإضافة الى الأدوية – كمية من المستهلكات الطبية، التي تستخدم لعلاج المريض أو الجريح لمرة واحدة قبل رميها، مثل الـ “شاش” المستخدم في تضميد الجراح، والحقن والأكياس فارغة لنقل الدم، والمواد مخصصة لحفظه ومنع تخثره وبالتالي إبقائه صالحاً. وجميعها أساسية لمداواة الجرحى، لا سيما أن الغوطة تتعرض بشكل مستمر لغارات من قبل جيش النظام.
عند دخولها، قامت بعض الكتائب “الفاسدة” في الجيش الحر بسرقة هذا المستودع، ومن ثم إخفاء المسروقات لبيعها في ما بعد بأسعار مرتفعة جداً. وقد إستمر البعض بإخفاء الأدوية الى أن إنتهت صلاحياتها. النوع الأخير يباع اليوم للناس في الغوطة ولكن بأسعار منخفضة. أما معمل الإنتاج فقد تم توزيع جزء كبير من مخزونه مجاناً من قبل المسلحين، والباقي تم بيعه وتوزيعه على الصيدليات.
بعض المنظمات الإنسانية، ومنها “شريان” تخترق هذا الواقع التجاري، وتعمل جاهدةً لتأمين العلاج والدواء. ويشير رئيس المنظمة محمد جرادة في حديث لـ “المدن”، ان المنظمة “تعمل في كل من الغوطة الشرقية والغربية وجنوب دمشق”. وشمول نطاق العمل لمناطق غير محاصرة أدى الى “كسر الحصار الدوائي عن المناطق المحاصرة، هو ما نعتبره أولوية”. ويوضح أن أكثر ما تعانيه المنظمة خلال إدخال الأدوية هو “تضييق النظام على كل من يشتري الأدوية ويدخلها الى المناطق المحاصرة”. ويردف جرادة: “فقدنا العديد من الشباب الذين تم إعتقالهم من قبل النظام بسبب نشاطهم الإغاثي”.
تعاني المنظمة اليوم من “صعوبة في تأمين الكثير من الأدوية التي لا تباع في الصيدليات أو للعامة”. ولتخطي هذا العائق “نلجأ الى تأمينها عبر إدخالها الى سوريا عن طريق التهريب” يقول جرادة، لتعود المنظمة وتقوم بتهريبها في مرحلة أخرى الى داخل المناطق المحاصرة.
وفقاً لجرادة “لطالما فقدت المنظمة كميات كبيرة من الدواء خلال هذه العمليات، إما بسبب اعتقال ناقلها أو سرقتها من قبل العسكريين على الحواجز. وتزداد صعوبة تهريب هذه المواد كلما إزداد حجمها”، ضارباً على ذلك مثال “حليب الأطفال”، وهو من ضمن المواد التي تخضع كغيرها لشروط الحصار اللاإنسانية.
وتجدر الإشارة الى ان مرات عديدة دخلت فيها قوافل الهلال الأحمر الى الغوطة، غير أن النظام لم يستطع عرقلة دخول القوافل أو جزء من حمولتها، فكان الرد بقصف المستودعات بعد خروج القوافل مباشرةً.