IMLebanon

بريطانيا .. نظرة اقتصادية خارجة عن السياق

britain-flag-new
مارتن وولف

في مملكة المكفوفين يعد الرجل ذو العين الواحدة ملكا، لذا عندما تباهى جورج أوزبورن، وزير المالية في المملكة المتحدة، في آخر ميزانية له في هذا البرلمان بأن “العام الماضي شهد وتيرة نمو أسرع من نمو أي اقتصاد رئيس متقدم آخر في العالم”، لم يلاحظ مدى سوء أداء الآخرين. مع ذلك بالنسبة للعامة، حتى ويلات كثير من الأجانب غير السعداء من غير المرجح أن تكون مقنعة.

ما كان على أوزبورن القيام به، بدلا من ذلك، هو إقناع نسبة كافية من الناخبين بأن يفضلوا “خطته طويلة الأجل” على أي خطط منافسة. كان هدفه هو الوعد بالمكافآت الآتية وترويع الجمهور بـ “عودة فوضى الماضي”. هل نجح في ذلك؟ الانتخابات العامة ستقدم الحكم.

كما يشير “مكتب مسؤولية الموازنة”، من غير المرجح أن يكون لقرارات السياسة الاقتصادية للحكومة أي أثر مادي في الاقتصاد. ويشير المكتب إلى أنه بالنسبة للمالية العامة، فإن هذه القرارات تضمن أن صافي الاقتراض سيكون أدنى في كل عام حتى عام 2018/ 2019 مما كان متوقعا في كانون الثاني (يناير) 2014، وأن التفويض المالي تم الوفاء به مع مجال للتوفير في 2017/ 2018، وأن الإنفاق العام كحصة من الناتج المحلي الإجمالي لن يعود مرة أخرى في عام 2019/ 2020 إلى مستواه المتدني لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ستتراجع عام 2015/ 2016.

هذه كلها تعتبر انتصارات لأوزبورن. إنها تعني، مثلا، أنه بعد أكبر ضغط حاد سيتعرض له الإنفاق العام الحقيقي في عامي 2016/ 2017 و2017/ 2018 أكثر من أي شيء شهدناه في السنوات الخمس الماضية، فإن الزيادة الكبرى في الإنفاق الحقيقي لعقد من الزمن، يفترض أن تحدث في 2019/ 2020. ومهما بدت سخافة هذه الصورة، إلا أنها تعني أن التقشف قد ينتهي قبل نهاية ولاية البرلمان المقبل.

وتعني أيضا أن حزب العمال لم يعد بإمكانه التذمر من أن المحافظين ينوون إعادة الإنفاق العام مرة أخرى إلى النسب التي شهدها قبل الحرب العالمية الثانية. بدلا من ذلك، يتباهى أوزبورن بأنه استعاد النسبة إلى معدل تم تحقيقه آخر مرة في عهد جوردون براون، قبل ـ حسب رأي المحافظين ـ أن يتحول “براون الحصيف” إلى “جوردون المبذر”. هذا يتجاهل حقيقة أن عددا قليلا من الناس آنذاك كانوا يعتقدون أن سياسة التقشف الأولية لحزب العمال قد تكون مجدية.

هذا يعني أيضا أن أوزبورن يمكنه أن يدعي أنه أعاد الدين العام تحت السيطرة في ظل هذا البرلمان، كما وعد. مع ذلك فإن السبيل الرئيس الذي حقق من خلاله هذا كان عن طريق مبيعات الأصول. من بين قيمة التخفيض البالغة 25 مليار جنيه في الديون الصافية عام 2015/ 2016 كان 18 مليار جنيه منها بسبب مبيعات الأصول التي تم الاستحواذ عليها خلال الأزمة المصرفية. ويعد هذا مجرد حركة لرأس المال. ونظرا لأسعار الفائدة المنخفضة التي تدفعها الحكومة، فهي عملية من المرجح أن تضر بالتدفقات النقدية. مثل تلك المعاملات لا تعمل على تحسين القيمة الصافية للحكومة، كما أن التركيز على الديون أمر مثير للسخرية.

مع ذلك، تتيح القرارات المالية العامة والوعود مجالا لمناقشات مهمة حول هيكل ومستويات الإنفاق والضرائب والعجز. يقترح أوزبورن مبلغ 30 مليار جنيه إضافي من الوفورات في الإنفاق قبل عام 2017/ 2018، منها 13 مليار جنيه تأتي من إنفاق الإدارات الحكومية، و12 مليار جنيه من وفورات الرعاية وخمسة مليارات جنيه (هذا رقم كبير) من التصدي للتهرب الضريبي والتلاعب والتخطيط الضريبي النشط. في الوقت نفسه، تقترح الحكومة تخفيضات ضريبية جديدة (وتخطط حتى لتخفيضات أخرى)، بما في ذلك رفع الحدود الدنيا للمعدلات الأساسية والأعلى من الضرائب. والآثار التوزيعية لتلك الخطط تتضح كما يلي: كلما ارتفع الحد الأدنى، فإن أي ارتفاع بعد ذلك سيكون أقل ويخدم العدد الأقل من الناس الذين هم أصلا معفيون من الضرائب. الأمر الواضح بالقدر نفسه هو الضغط على الوزارات المهمة، مثل وزارة الدفاع، وكذلك عديد من الجهات الأخرى. حتى خدمات الصحة الوطنية قد تجد صعوبة في العيش خمس سنوات أخرى بموارد حقيقية راكدة.

يبقى السؤال لماذا من المهم إدارة فائض في الموازنة الحالية نسبته 1.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2019/ 2020، الذي قد يغطي أيضا جميع الاستثمارات العامة. نظرا لأن المملكة المتحدة لا تجد صعوبة في الاقتراض بقيمة اسمية منخفضة بشكل استثنائي وأسعار فائدة (سلبية من الناحية الحقيقية)، فإن قرار تجنب الاقتراض بالإجمال أمر يصعب تبريره. قد يكون من المعقول تشغيل ميزانية حالية متوازنة في نهاية البرلمان المقبل والاقتراض من أجل الاستثمار. في الواقع قد يكون من المعقول الاقتراض من أجل الاستثمار حتى أكثر مما هو مقرر. علاوة على ذلك، لو كان من الضروري تشغيل فائض إجمالي، سيكون من المعقول رفع الضرائب قليلا بدلا من الاعتماد على تخفيضات الإنفاق فقط.

مع ذلك، تعد تلك المناقشات المالية العامة في الحقيقة مسائل طفيفة نسبيا. حتى الآن، القلق الأكبر يكمن في الاقتصاد. نعم، لقد كان أداء الوظائف مذهلا، والمملكة المتحدة لديها سوق العمل المرنة التي زعمت أنها لديها. لكن بما أن الاقتصاد الآن أصغر بمقدار السدس مما لو استمرت اتجاهات ما قبل الأزمة، فإن هذا سيكون على حساب حدوث انهيار في نمو الإنتاجية – كلمة لم ينطقها أوزبورن – وكذلك ركود مستويات المعيشة. إن تنبؤات أوزبورن للنمو تعتمد على حدوث انتعاش في نمو الإنتاجية التي لا توجد أية دلالة عليها تقريبا.

نظرا لهذا، فإن الادعاء أن هدف الحكومة هو “أن تصبح بريطانيا الاقتصاد الرئيس الأكثر ازدهارا في العالم” يعد ادعاء يدل على الصلف. وفقا لصندوق النقد الدولي، فإن حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في المملكة المتحدة أدنى بنسبة 32 من المعدل في الولايات المتحدة، وأدنى بكثير من النسبة في ألمانيا وفرنسا (الدولة التي يسعد أوزبورن بصب الاحتقار عليها). الأسوأ من ذلك، انخفضت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى حد كبير مقابل المعدل في الولايات المتحدة منذ الأزمة. ليس هناك أي شيء في الأداء في الآونة الأخيرة ما يشير إلى أن هدف الحكومة ليس إلا سرابا.

ما لا يقل عبثية عن ذلك هو التباهي بأن انتعاش بريطانيا الآن لا يستند إلى الديون. في الواقع، تقوم المملكة المتحدة بتشغيل عجز كبير في الحساب الجاري. في ظل مكتب مسؤولية الميزانية، فإن نسبة دين الأسرة إلى دخلها، رغم أنه من المتوقع أن يرتفع بسرعة أقل مما كان عليه الحال في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، لا يزال من المنتظر أن يصل إلى مستويات قياسية مع نهاية هذا العقد. باختصار، على جانبي العرض والطلب، يبدو الأداء المفترض موضع شك، أو هشا، أو كليهما.

أوزبورن تكتيكي أريب. فقد أضفى قوة كبيرة على بطاقات ضعيفة في يده. من الناحية السياسية، أقوى دعوى لديه هي أن الاقتصاد في حالة تحسن. ومن هذا الباب فهو يجادل بأنه سيكون من الحمق تسليم الاقتصاد إلى الذين كانوا في الحكم، حين أصابه الأذى على نحو صاعق. وهذه حجة جيدة. لكن ما جاء به من الأحكام المالية العامة والادعاء أن الاقتصاد في سبيله إلى الشفاء التام، فهذه أمور قابلة للجدل إلى حد كبير. ستكون الحملة الانتخابية هي الفرصة المناسبة للجدال حول هذه القضايا الأساسية.