اتفق المتخصصون في المالية العامة، على أن إعداد الموازنة العامة للدولة يجب أن يخضع لمجموعة من القواعد، تهدف إلى وضع الموازنة في صورة واضحة، كي يسهل على السلطة التشريعية تفهمها، ومن ثَـمَّ فرض الرقابة على تنفيذها. كما تهدف هذه القواعد، كذلك، إلى أن تكون الموازنة العامة معبِّرة تعبيراً صادقاً عن النشاط المالي للدولة. فضلاً عن أن هذه القواعد تجنب الحكومة الخطأ، وتقلل من احتمالات الإسراف في الإنفاق. كما تحتاج الموازنة العامة إلى قدر كبير من التنسيق بين بنودها المختلفة، وهو أمرٌ لا يتحقق إلاّ إذا تولت الحكومة إعدادها. أمّا إذا تُرك للسلطة التشريعية إعداد الموازنة العامة، فلن يتحقق التنسيق بين بنودها المختلفة، نظراً إلى تعدد أعضاء السلطة التشريعية، واختلاف اتجاهاتهم السياسية، وانتماءاتهم الحزبية، ومن ثَـمّ، تباين مطالبهم المالية، إمّا إرضاء لناخبيهم وإمّا تجاوباً مع برامج أحزابهم، من دون النظر إلى الاعتبارات الفنية والاقتصادية، ومسؤوليات الدولة.
فإذاً الموازنة هي خطة عمل، تترجم الحكومة سياستها الاقتصادية والاجتماعية إلى أهداف سنوية رقمية، وليست مجرد برنامج عمل خاص بوزارة المالية يُبيّن الكفاءة في إدارة الأموال وحسب! ولا تتقرر فعالية الموازنة بذاتها فقط، بل ترتبط بأدوات التخطيط المالي الأخرى كسياسة التسليف وسياسة النقد الأجنبي، وتقاس بالنتائج الاقتصادية الاجتماعية وليس بالنتائج المالية فقط. والدور الاقتصادي والاجتماعي للموازنة العامة يكون أكثر فعالية في ظل الأنظمة الديمقراطية، مقارنة بالأنظمة البيروقراطية التي تلعب فيها الموازنة العامة دوراً هامشياً وضعيفاً. ويمكن التعرف على حجم وطبيعة الآثار التي ستتركها تلك الموازنة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية العامة، من خلال قابليتها للإجابة على الأسئلة الآتية التي تعكس طبيعة الأهداف التي ستعمل الموازنة على تحقيقها على المستوى الاقتصادي الكلي والجزئي.
ويمكن التعرّف على أهداف الموازنة العامة على مستوى الاقتصاد الوطني من خلال التعرّف على دور السياسة المالية في تحقيق النمو الاقتصادي، وزيادة إنتاجية العمل، وهل ستؤدي إلى رفع مستوى التضخم، أم إلى استقرار الأسعار؟ وهل ستشجع تلك التوجهات المالية على تنمية الإمكانيات الوطنية، المادية والبشرية، أم تؤدي إلى طمس وقمع هذه الإمكانيات أو تهريبها أو طردها إلى الخارج؟ وهل ستؤدي تلك التوجهات إلى اجتذاب الإمكانيات الوطنية الموجودة والمتراكمة في الخارج، والإمكانيات الأجنبية الراغبة في الاستثمار بما يخدم أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أم تعمل على تنفير هذه الإمكانيات وإحباط تلك الرغبات؟ كما يمكن التعرف على توجهات الموازنة العامة على المستوى الاجتماعي من خلال التعرف على دور السياسة المالية في رفع مستوى الرفاه الاجتماعي، الذي يقاس بالتحسن المضطرد في مستوى إشباع الحاجات المادية والمعنوية للمواطنين. وهل ستؤدي تلك التوجهات إلى دعم وتشجيع القطاعات والأنشطة أو الفئات والعناصر الأكثر ارتباطاً بالتقدم الاجتماعي والعلمي – التكنولوجي، والأكثر قدرة على التعامل الإيجابي الخلاق مع العالم وتطوراته السريعة، أم على العكس، تحبط هؤلاء وتثبط هممهم وتقمع تطلعاتهم وتجبرهم على الانطواء أو الهجرة إلى الخارج لوضع قدراتهم وإنجازاتهم في خدمة الدول الأخرى، وربما ليتعاملوا من هناك لاحقاً مع دولتهم وشعبهم بصفتهم أجانب، من وراء أو باسم شركات أجنبية، وما أكثر هذه الحالات في وطننا الصغير؟ وهل ستؤدي إلى تشجيع تمايزي يُحابي الأنشطة الإنتاجية على حساب الأنشطة الطفيلية، أم على العكس، إلى محاباة الطفيليين والأنشطة غير الانتاجية بما يضيّق على المنتجين ويضاعف الأعباء عليهم؟ وهل ستعمل الموازنة إلى إدراج بند سلسلة الرتب والرواتب مع رفع إدارة العمل المالي على تطوير خبرات ملاكاتها وتقنيات وأساليب عملهم وتعميق إخلاصهم وخدمتهم للأهداف العامة بواسطة الحوافز المادية والمعنوية، أم تدفعهم للعمل بأساليب بعيدة عن العصر وبما يتعارض مع واجباتهم الرسمية ومصالح الموازنة، مثل مسك دفاتر المكلفين وتنظيمها بما يساعدهم على التهرّب من الواجبات الضريبية، أو التنازل عن حقوق الخزينة تجاه الآخر، محليين أو أجانب، انسياقاً مع الفساد وخضوعاً للإغراءات المادية؟ وهل ستؤدي السياسة المالية، والموازنة العامة، إلى مزيد من الانسجام والسلام الاجتماعي والرضا الفردي، أم تصب الزيت على نيران التناقضات وتقود إلى الانفجار الاجتماعي؟
وتُبين الموازنة العامة مجموعة معقدة ومتشابكة من الاحتياجات العامة التي تنتظر الإشباع، مما يشير إلى مدى ثقل الدور الاقتصادي والاجتماعي لبرامج الموازنة العامة في لبنان. فإنها تواجه مهمة زيادة الإنتاج المحلي، وزيادة دخل الفرد الواحد والعمل على خفض معدل البطالة، والسيطرة على ظاهرة التضخم، والعمل على تخفيض أصل المديونية الخارجية، وإصلاح وإعادة تأهيل المؤسسات والمنشآت والشركات الاقتصادية في القطاع العام والبدء بتشغيلها، وإطلاق مشاريع قطاع النفط من خلال إدخال أو استخدام المعايير التجارية لرفد الأنشطة الاقتصادية بالإيرادات المالية، وتحقيق النمو المتوازن بين المحافظات المختلفة وتقليص معدلات التفاوت، وتطوير النظام الإداري في مؤسسات الدولة بما يخدم مصلحة الوطن والمواطن ويتماشى مع التطور الاقتصادي. وهل أعطت تلك الموازنة الجانب الأمني أهمية استثنائية، واهتمت في عملية تنمية قطاعات الطاقة والصناعة التحويلية والزراعة؟ وهل تشير تلك الموازنة إلى أهمية موضوع المساعدات والمنح الدولية لمساعدة اللاجئين، مع أن تجربة السنوات الثلاث الماضية لم تكن إيجابية في هذا المجال؟ وهل عوّلت على الاستثمارات الأجنبية في تطوير القطاع النفطي مع أن أهم محدد أمام اجتذاب هذه الاستثمارات لا يزال قائماً وهو الجانب الأمني الذي يتميز بتدهوره، مما يعني أنه عدم توافر المناخ الملائم لاجتذاب هذه الاستثمارات؟. وهل اقترنت سياسة الإصلاح الاقتصادي بشروط صندوق النقد الدولي، وتنفيذ تلك الشروط يواجه تحديات كبيرة على المستوى الرسمي والشعبي؟ وهل يقوّض الفساد الإداري والمالي الركائز الأساسية لهذه الموازنة ويمنعها من تحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية؟
لذلك فإنه مطلوب توحيد تمويل المشاريع الاستثمارية ضمن الموازنة فقط، فاعتماد عملية تمويل المشاريع من خلال قنوات متعددة يتعارض مع قانون وحدة الإنفاق، فوجود مشاريع ممكن أن تمول عن طريق الموازنة أو هيئة الإغاثة أو مجلس الإنماء والإعمار أو عن طريق الدول المانحة أو على أساس القاعدة الأثني عشرية، قد يؤدي إلى تكرار تمويل المشاريع عبر عدة قنوات مما يؤدي إلى استفحال ظاهرة الفساد المالي والاقتصادي. كما أن هناك فجوة زمنية بين إشعار وزارة المالية لإطلاق صرف مبالغ التخصيصات وبين إيداع الوزارات تلك المبالغ في حسابات وزارة المالية، وهذا الأمر سيترك تأثيراً سلبياً على تنفيذ المشاريع وإنجازها في مواعيدها المحددة.
إن استمرار حالة عدم الاستقرار الأمني، وما تتركه من آثار خطيرة على تعطيل عملية إعادة الإعمار والمباشرة بتنفيذ الأهداف التي يجب أن تقرها الموازنة يعد حاجة ملحة لتطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادي، وفي مقدمتها الإلغاء التدريجي للدعم الحكومي وبخاصة دعم أسعار المشتقات النفطية، الذي يستحوذ على نسبة عالية من الإنفاق العام. إن الإنفاق الاستثماري، الإداري والاقتصادي، على محافظات غير مبني على أسس علمية، ولا يسند على توجهات أو دراسات أو إحصاءات جغرافية اقتصادية وبشرية. فالموازنة العامة للدولة لم يستخدم فيها حتى الآن التبويب الجغرافي، ناهيك عن انعدام الدراسات التي تبين آثارها على السكان من حيث الإسهام في مواردها أو الافادة من ثمارها. وإذا كان ذلك جائزاً في الماضي، فهو غير جائز في الوقت الحاضر، في عصر المعلوماتية وتطوّر برامج الحاسوب، بعد أن أصبح من السهل إجراء جميع التبويبات والتصنيف المطلوب للموازنة العامة.
إن ضعف الكفاءة الفنية لمؤسسات التدقيق والمحاسبة والأجهزة الضريبية بحيث لم تصمم الموازنات المنفذة على أسس ترقى إلى المعايير الدولية المعتمدة من قبل صندوق النقد الدولي المتعلقة بشفافية الموازنة، ويحددها الصندوق بأربعة مجالات أساسية وهي وضوح الأدوار والمسؤوليات، توفر المعلومات للمواطنين، تحضير منفتح للموازنة وتطبيق منفتح لها وضمانات النزاهة. كما أن معالجة مشكلة البطالة التي تتجاوز نسبتها (30%) حسب الإحصاءات الرسمية هي من الأمور المطلوبة والتي يجب أن تتضمنها الموازنة العامة من دون تأخير.
وأخيرا وليس آخر، للموازنة العامة أهمية كبرى لأنها تعبِّر عن برنامج العمل، السياسي والاقتصادي والاجتماعي للحكومة خلال الفترة المالية. وبعبارة أخرى، فإن الموازنة العامة للدولة لها دلالة سياسية واقتصادية واجتماعية، إذ يمكن الكشف عن مختلف أغراض الدولة من خلالها، عن طريق تحليل أرقام الإيرادات العامة، والنفقات العامة، التي تجمعهما وثيقة واحدة، هي الموازنة العامة للدولة. وفي اختصار، يمكن القول ان الموازنة العامة للدولة ليست مجرد بيان يتضمن الإيرادات العامة، والنفقات العامة، وإنما هي، كذلك، وثيقة الصلة بالاقتصاد الوطني، والأداة الرئيسية، التي يمكن عن طريقها تحقيق أهداف الدولة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وخلق بيئة اقتصادية ناشطة تساهم في خلق فرص عمل للمواطنين.