أليكس باركر وكرستيان أوليفر وجاك فارشي
في البداية كانت عملية المراقبة. سيرا على الأقدام وبالسيارة أخذوا مقياس المباني والمداخل والمخطط، وذلك لتخطيط أسرع وسيلة لعزل الممرات وإغلاق الخوادم والاستيلاء على أجهزة الكمبيوتر. مع مجيء الصباح جاءت الغارات المتزامنة، التي أطلقت ضد ما يقارب 20 مكتبا منتشرة في عشرة بلدان، سلسلة من المكاتب التجارية الخارجية التي تمتد من بلغاريا في الجنوب إلى أستونيا في الشمال، لتعقب قوس من الشركات التابعة لـ “غازبروم” وعملائها في جميع أنحاء الجناح الشرقي من أوروبا.
كان التاريخ هو 27 أيلول (سبتمبر) 2011 وكانت أكبر غارة لمكافحة الاحتكار على الإطلاق في أوروبا قد بدأت للتو. كان ذلك الهجوم الصاروخي الافتتاحي لبروكسل في محاولة لقلب -من خلال قوة القانون- أنموذج الأعمال الذي يبلغ من العمر 40 عاما للشركة المهيمنة على الغاز في المنطقة. طرح محققو الاتحاد الأوروبي من الأحمال المتدلية من على أكتافهم أسرار الاحتكار الروسي الذي يزود نحو 30 في المائة من الغاز في أوروبا. الادعاء الأساسي (على الرغم من عدم توجيه اتهامات رسمية) هو استغلال “غازبروم” قوة التسعير لديها لتتقاضى أسعارا من بلدان مثل ليتوانيا تزيد بمقدار الثلث على الأقل على السعر الذي تتقاضاه من ألمانيا.
وفي علامة على التوتر السياسي الحارق الذي يحيط بالقضية، كان رد فعل فلاديمير بوتين، رئيس وزراء روسيا آنئذ، على الأنباء هو أن مكاتب عملاء “غازبروم” والشركات التابعة لها تعرضت للنهب بهدف الاطلاع على أسرار الشركات. وقال وهو يستشيط غضبا في الوقت الذي كان يجري إطلاعه على “غارات الفجر”، “آمل أنه لم يتم القبض على أحد أو سجنه”. وأجاب إلكسي ميلر، رئيس شركة غازبروم “ليس بعد”. فقال بوتين “الحمد لله”.
لم تكن لديه حاجة للقلق. لا تستطيع السلطات المسؤولة عن المنافسة في الاتحاد الأوروبي إصدار مذكرات توقيف. حتى إنهم في الواقع يلتزمون بمتطلبات ساعات العمل المدنية على نحو غير عادي في بروكسل: لا تجري “غارات الفجر” قبل الساعة التاسعة صباحا.
بعد مناورة الافتتاح المثيرة، ومحاولة غير حاسمة في محادثات تسوية جرت العام الماضي، أخذت هذه القضية تجرجر أذيالها. الاتهامات الرسمية ضد “غازبروم” التي -وفقا لمصادر في الاتحاد الأوروبي- كانت جاهزة إلى حد كبير في نهاية عام 2013، تأخرت بسبب المخاوف من استعداء روسيا أكثر من قبل، في حين كان الصراع المتفاقم يمزق أوكرانيا إربا.
الانتقام الروسي
المكلفون بإنفاذ مكافحة الاحتكار في بروكسل يعتزون باستقلالهم، لكن توقف التحقيق بدأ يتخذ طابعا سياسيا للغاية. ومع وصول مفوضية جديدة في تشرين الثاني (نوفمبر) حصلت قضية “غازبروم” على زخم جديد. وفي الشهر الماضي قال ماروس سيفكوفك، نائب الرئيس المسؤول عن الطاقة في المفوضية، “إن القضية على بُعد أسابيع فقط”.
مارجريت فيستاجير، مفوضة المنافسة، تعتبر أكثر حذرا. فقد اعترفت بأنها ستقدم كلاما “عاما” فقط حول توقيت أي رسوم، وكذلك حول الخيارات لتقديم “غازبروم” فرصة لتسوية. مع ذلك، يقول دبلوماسيون أوروبيون شرقيون “إنهم تلقوا تأكيدات من قبل المفوضية تفيد بأن العمل بات وشيكا، على الرغم من أنهم يتوقعون أن تستغرق الاتهامات شهورا وليس أسابيع”.
حين تختار لحظتها، ستكون فيستاجير مطلقة لسلاح قانوني حارق، إذ تمتد التداعيات إلى ما وراء أعمال إمدادات الغاز. ويقول آلان رايلي، أستاذ القانون في جامعة سيتي في لندن، “إن من المرجح للاشتباك مع “غازبروم” أن يكون قضية فارقة في مكافحة الاحتكار في العقد الحالي – خير خلف لمعركة ملحمية تنظيمية تورطت فيها “مايكروسوفت”، وانتهت في عام 2007، وفي نهاية المطاف كلفت الشركة أكثر من ملياري دولار غرامات. ويضيف “تحتاج المفوضية للدفع ويحتاج الروس لحماية كبريائهم. وهذا ما يجعل الأمر صعبا جدا في الواقع”.
الأمور التي على المحك ازدادت بفعل خطر أن تغلق روسيا صنابير الغاز من باب الانتقام: في أجزاء من جنوب شرق أوروبا، الاعتماد على شركة غازبروم يقارب 100 في المائة. الأزمة في أوكرانيا أظهرت للعيان عداء موسكو المتزايد للاتحاد الأوروبي وأثبت اتفاق تجارة بارز بين بروكسل وكييف أنه نقطة انطلاق للصراع الذي اجتاح منطقة دونباس الشرقية في أوكرانيا.
فيستاجير تبذل ما وسعها من أجل الإصرار على عدم التنسيق مع العواصم الوطنية حول توقيت أي لائحة اتهام، على الرغم من رد الفعل المحتمل من موسكو. وتقول “في اللحظة التي تفعل فيها ذلك، فإنك تسيس القضية”.
التهديد بغرامة كبيرة ضد “غازبروم” – نظريا 10 في المائة من الإيرادات السنوية – سيضيف فقط إلى قائمة مظالم موسكو ضد بروكسل. ولأن “غازبروم” أبلغت عن مبيعات تزيد على 150 مليار دولار في عام 2013، يشير أحد دبلوماسيي البلطيق إلى أن روسيا ستنظر إلى أي عقوبة محتملة باعتبارها تشكل تهديدا استراتيجيا لاقتصادها المتدهور بسرعة، على الرغم من أنه يكاد يكون من المؤكد أن بروكسل لن تتجه أبدا إلى أي شيء بالقرب من الحد الأقصى الممكن.
وترفض “غازبروم” التعليق على القضية، لكن الشركة التي عانت انخفاضا بنسبة 60 في المائة في الأرباح في الربع الثالث من العام الماضي، تشير إلى أنها غير راغبة في هدنة. وتمثل عقود الغاز المقبلة مع ليتوانيا وأستونيا فرصة للانفراج في بحر البلطيق. إيلينا بيرمستروفا، مديرة “غازبروم اكسبورت”، تقول “إن الشركة تعتقد أنه ستتم استعادة البيئة السياسية في أوروبا إلى الحالة التي نشعر فيها بالترحيب مرة أخرى”.
ثمن باهظ
على الرغم من أن التهديد بغرامة نذير خطر واضح لموسكو، إلا أن الأهمية الأعمق للقضية تكمن في دفع “غازبروم”، وهي واحدة من المجموعات الروسية الأهم من الناحية الاستراتيجية، لإصلاح الطريقة التي تدير بها الأعمال في أوروبا. بلدان أوروبا الشرقية تشعر بالمرارة مما تعتبره قدرة “غازبروم” على فرض أسعار سياسية – تكون عالية بالنسبة لأعضاء حلف شمال الأطلسي من بلدان البلطيق، لكنها منخفضة لأوتوقراطي مثل الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش. هذا التباين الواسع في السعر في جميع أنحاء أوروبا يثير غضب صناع السياسة في بروكسل، لأنهم يقولون إن روسيا يمكن أن تستخدم الغاز للعب لعبة “فرق تسد” بين الدول التي في فلكها سابقا، ما يقوض الإجماع لفرض عقوبات اقتصادية أكثر صرامة ضد موسكو.
في نهاية عام 2013 وأوائل 2014، كان الطرفان على الأقل لا يزالان يتحدثان إلى بعضهما بعضا حول المظالم الرئيسية الثلاثة للاتحاد الأوروبي. لم تبدأ المفاوضات بشكل جيد. وقال أناتولي يانوفسكي، نائب وزير الطاقة الروسي، بصراحة “إنه لا يعترف بسلطة الاتحاد الأوروبي وأعلن عن عدم شرعية التحقيق”. ولكن بعد هذا التحذير، تغير المزاج وتحدث عن رغبة “غازبروم” في إيجاد حل. ومرر مسؤولية المفاوضات لألكسندر ميدفيديف، نائب رئيس شركة غازبروم.
هكذا بدأت ثلاثة أشهر من المحادثات غير الحاسمة. كان عدد كبير من المندوبين بشكل غير عادي يتألف من 25 تنفيذيا في “غازبروم” يُحشرون في غرفة كئيبة في برج مادو في بروكسل، لمواجهة مسؤولين من المفوضية.
ويصف أحد المفاوضين ميدفيديف بأنه خصم فولاذي – وهو متحمس لرياضة هوكي الجليد ويتلذذ بتدمير المعارضين. ويقول “إذا كنتُ على الجليد مع ميدفيديف، أريد بالتأكيد أن أكون إلى جانبه”.
فيما يخص اثنين من مخاوف الاتحاد الأوروبي هناك آمال كبيرة لتسوية نهائية. في وقت مبكر من العام الماضي أشارت “غازبروم” إلى استعدادها لتقديم تنازلات حول الفقرات الخاصة بالوجهة، التي تمنع إعادة بيع الغاز. ويجادل محامون بأن هذه تتعارض مع قانون الاتحاد الأوروبي ولن تكون مقبولة في العقود المستقبلية. ومع ذلك، خلال عام 2014، هذا السؤال الشائك حول إعادة البيع قفز إلى الصدارة، مع إصرار روسيا على أنه لا ينبغي لبولندا وسلوفاكيا رمي طوق نجاة الطاقة إلى كييف عن طريق ضخ غاز “غازبروم” مرة أخرى شرقا فيما يسمى بـ “التدفقات العكسية”.
كذلك كانت بروكسل تسد الفجوة مع موسكو حول ممارسات ينظر إليها على أنها تستثني الموردين المنافسين. وتجادل دول أوروبا الشرقية بأن “غازبروم” ربطت مشاريع خطوط أنابيب خاصة بها للتزويد بالطاقة وهددت برفع الأسعار إذا ما سعى العملاء إلى بناء بنية تحتية للشراء من المنافسين. وبما أن روسيا ألغت خط أنابيب ساوث ستريم عبر البحر الأسود في نهاية العام الماضي، يتوقع محامو الاتحاد الأوروبي أن تكون “غازبروم” أكثر انفتاحا حول حل مسألة وصول الغير.
رجل سندريلا
لكن من المتوقع لشكوى الاتحاد الأوروبي الثالثة أن تكون الأكثر إثارة للجدل. لا شيء يقسم الطرفين أكثر من ادعاءات التسعير الاستغلالي. على المحك هناك طريقة عمل “غازبروم” بحد ذاتها، مقايسة أسعار الغاز إلى النفط في عقود طويلة الأجل، وهي ممارسة هولندية تسمى صيغة جرونينجن، وقد بدأت في الستينيات. منذ أن بدأ التحقيق، قامت شتاتويل النرويجية إلى حد كبير بوقف استخدام ممارسة مقايسة النفط، والآن المفوضية تدفع “غازبروم” إلى اتخاذ نهج جديد وتحديد الأسعار في سوق شفافة ومفتوحة.
هذه هي الأراضي الأكثر صعوبة. وفقا لأشخاص مطلعين على المحادثات، أبلغت مختصة الطاقة المتشددة في المفوضية، سيلين جوير، ميدفيديف بأن ألمانيا ستتخذ مؤشرا مرجعيا للسعر على نحو لا ينبغي لـ “غازبروم” أن تحيد عنه على نطاق واسع. وكانت رسالتها واضحة: التخلص من مقايسة النفط وخفض الأسعار.
وحذر ميدفيديف الغاضب من أن التحول إلى بقعة تسعير على مراكز الغاز غير السائل الأوروبية يمكن أن تزيد الأسعار. ورد أحد المحققين “أنت لا تريد ذلك”؟ لم تكن “غازبروم” سندريلا (لتتلاشى في منتصف الليل)، كما أجاب ميدفيديف، وهي موجودة في أوروبا لفترة طويلة.
الصعوبة التي تواجه المفوضية هي أن هناك إطارا قانونيا محدودا جدا للاتفاق على ما يشكل المغالاة في السعر. ووفقا لماريو مارينيلو، مسؤول المنافسة السابق في الاتحاد الأوروبي، الذي يعمل الآن لدى بروجل للأبحاث، ليس من دور المفوضية “القول خفضوا السعر، ولكن محاولة تحفيز المنافسة”.
ليست هناك إشارة إلى أن موسكو ستتخلى عن مقايسة النفط، وفلاديمير تشيجوف، السفير الروسي ذو النفوذ لدى بروكسل، يدافع بانتظام عن المنهجية. وقال في مقابلة مع وكالة أنباء إيتار تاس الروسية “لقد اختفى الحديث عن صيغة جرونينجن غير العادلة التي تربط أسعار الغاز بسعر النفط الذي تقلص بصورة شديدة الآن”. وأضاف “لا أحد في أوروبا لديه أي شكاوى الآن”.
لكن رايلي يجادل بأن الهبوط في الأسعار يمكن أن يقلل أيضا جاذبية مؤشر النفط لموسكو. “وبما أن محطات الغاز الطبيعي المسال الليتوانية والبولندية بدأت العمل بفاعلية، ومع تدفق مزيد من الغاز في جميع أنحاء القارة (…) إلى أي مدى يمكن لـ “غازبروم” بشكل واقعي التفرقة في الأسعار بين عملائها”؟
وحتى مع ذلك، فإن الشهية لإحياء قضية مكافحة الاحتكار الخاملة تعتبر عالية. يقول دبلوماسي أوروبي شرقي إن صدقية الاتحاد الأوروبي تتوقف على قدرته على استخراج غرامة ذات مغزى. بعد عقود من تنظيف الأسواق الأوروبية الغربية، يُنظر إلى قضية “غازبروم” كما لو أنها اختبار حقيقي لما إذا كانت السلطات ستلقي بالثقل نفسه وراء قوى السوق من الأعضاء الشرقيين الجدد. ويقول الدبلوماسي “تسوية من دون غرامة قد تكون فضيحة”.
أحد المجاهيل الكبيرة لهذه القضية هو إلى أي مدى ستتعاون روسيا إذا ما تبين أن “غازبروم” مذنبة. إذا لم تدفع غرامة، فإن لدى المفوضية صلاحيات لاقتطاع أموال من المدفوعات المستحقة لشركة غازبروم من قبل عملائها في الاتحاد الأوروبي.
يقول فاكلاف بارتوسكا، السفير التشيكي للطاقة والمفاوض السابق في صفقات مع شركة غازبروم، “لقد قلَّت مشكلات الغاز في براغ في السنوات الأخيرة مع تنوع العرض”، لكنه لا يزال يرى القضية باعتبارها لحظة حرجة.
ويقول “تحدثنا عن الحاجة إلى إجراء تحقيق جدي في ممارسات “غازبروم” حتى عندما أراد كثير من الأوروبيين أن نرى روسيا من خلال نظارات وردية. وهذه الحاجة بوضوح أكثر إلحاحا الآن. نحن نعتقد أن جميع من يريد أن تكون لديه إمكانية الوصول إلى سوق الاتحاد الأوروبي ينبغي له الالتزام بقواعد الاتحاد الأوروبي. تريد أن تلعب بشكل مختلف؟ اذهب إلى مكان آخر”.