الأمر السحري بشأن النظام الفيدرالي في أمريكا هو أنه عندما يتوقف الوسط، يحافظ الباقي على هدوئه ويواصل العمل. الانتعاش الاقتصادي في الولايات المتحدة يحدث على الرغم من فشل المحرك في واشنطن. هذا أمر جيد بما أنه يوجد عدد قليل من المهندسين الذين يمكن الوصول إليهم بسهولة. لا توجد مثل هذه الأداة الآمنة من الفشل والتوقف بالنسبة للسياسة الخارجية. كان يُقال إن السياسة الأمريكية توقفت عند حافة المياه. لكن الضمور يتسرب إلى كل زاوية من زوايا المشاركة العالمية للولايات المتحدة – من العلاقات الإسرائيلية إلى محادثات التجارة عبر المحيط الهادي. والتكاليف غير مرئية إلى حد كبير. مع ذلك، هناك ثمن حقيقي لعدم القدرة المتنامية على التنبؤ بتحرك البلاد على الصعيد العالمي.
كان من المفترض أن تأخذ الأمور منعطفاً نحو الأفضل الآن. عندما سيطر الجمهوريون على الكونجرس في تشرين الثاني (نوفمبر) كان من المفترض أن يتم رسم خط تحت المأزق السابق الذي دام ستة أعوام. حتى ذلك الحين، كان بإمكانهم إحباط كل شيء أراده الرئيس، لأنهم كانوا يَحْتَمون بمعرفتهم بأن الناخبين الغافلين سيلقون اللوم على الديمقراطيين. بمجرد أن سيطر الجمهوريون على كلا المجلسين، سيقوم الناخبون بإلقاء المسؤولية عليهم. ذلك التوقع يبدو بالفعل متفائلاً جداً. فالجمهوريون يعارضون جدول الأعمال المحلي لباراك أوباما كما كانوا من قبل، والديمقراطيون في حالة من الفوضى. وبدلاً من كسر الجمود، فهو ينتشر كأنه بقعة حبر في السياسة الخارجية الأمريكية.
أكبر الضحايا هو قدرة الولايات المتحدة على التعامل مع الفوضى في الشرق الأوسط. جاء فوز بنيامين نتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة بعد أن سخر من أوباما في الخطاب الأكثر حزبية الذي قدّمه على الإطلاق مسؤول أجنبي إلى الكونجرس الأمريكي. من الناحية العملية، يبدو الأمر وكأن عضوية الحزب الجمهوري عُرِضت على نتنياهو. في الأسبوع التالي، قام 47 عضوا جمهوريا من مجلس الشيوخ، أي نحو نصف مجلس الشيوخ، بإخبار زعيم إيران، آية الله خامنئي، بأنهم سيلغون أي اتفاق نووي يعقده أوباما. وسيعملون الآن يداً بيد مع رئيس الجمهوريين في الشرق الأوسط – المعروف أيضاً باسم “بيبي” (نتنياهو) – لتخريب مبادرة رئيسهم.
عدم الوحدة في الكونجرس يعمل أيضاً على إعاقة قدرة أوباما على شن حرب على “داعش”. ومن خلال التصريح بأنه لن يدخل القوات البرية الأمريكية إلى أرض المعركة، قيد أوباما قدرة البنتاجون على تقديم المشورة للجيش العراقي في ساحة المعركة – ما سبب الكثير من الانزعاج لبغداد. ويلوم العراقيون جزئياً أوباما على فشلهم حتى الآن في استعادة تكريت. لكن الكونجرس يجعل المشكلة أسوأ. طلب أوباما الإذن لمحاربة داعش. ويعتقد الجمهوريون أنه يطلب القليل جداً من السلطة، بينما يعتقد الديمقراطيون إنه يطلب الكثير جداً. النتيجة هي أن أوباما من غير المرجح أن يحصل على موافقة من الكونجرس، الأمر الذي سيزيد من إعاقة مناورته السياسية لشن حرب على داعش. حتى وقت قريب، المعركة ضد إرهاب الإسلاميين كانت في الغالب مدعومة من الحزبين. لكن ذلك الآن يتصف بالجمود، أيضاً.
التهديد لجدول أعمال أوباما التجاري ينمو أيضاً. لاختتام المحادثات التجارية عبر المحيط الهادي المكونة من 12 عضوا، يحتاج الرئيس إلى سلطة التفاوض ذات المسار السريع من الكونجرس. كل من سبقوه حصلوا عليها. هذا كان أحد المجالات – التجارة الحرة – حيث الأغلبية الجمهورية يمكن أن تعمل لصالح البيت الأبيض. للأسف، هذه أيضا حالة من التفكير القائم على التمني. فاليسار لا يزال يُعارض بعناد أي اتفاق للتجارة – لقد تعهد الاتحاد الأمريكي للعمل ومؤتمر المنظمات الصناعية AFL-CIO، أكبر اتحاد أمريكي، بوقف تمويل أي ديمقراطي يصوت لأي اتفاق عبر المحيط الهادي. في الوقت نفسه، جمهوريو حزب الشاي لا يرغبون في منح أوباما أي سلطات تفاوض ذات صلاحية مُطلقة. ودعم هؤلاء للتجارة الحرة يحجبه كرههم لأوباما. وهكذا مع كل أسبوع، طموحاته التجارية تبدو أكثر تذبذباً.
بل الجمود يعمل حتى على تقويض مشروع “محور آسيا” الخاص بأوباما. ويلومه المراقبون على حقيقة أن حلفاء الولايات المتحدة، بقيادة بريطانيا، يتدافعون للانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ضد رغبات أمريكا. لقد فشل أوباما في توضيح الشروط التي بموجبها ستتخلى الولايات المتحدة عن معارضتها، لكن المشكلة تنبُع من الكونجرس. رغبة الصين في إنشاء مجموعة موازية من المؤسسات المتعددة الأطراف تُنبع من عدم قدرة الولايات المتحدة على إصلاح المؤسسات القائمة. الكونجرس هو وحده الذي رفض تأييد إصلاح صندوق النقد الدولي – وهي خطوة ضرورية نحو منح الصين صوتاً يعكس حجمها الاقتصادي بشكل أفضل.
بموجب بعض المقاييس، تعتبر الصين الآن أكبر اقتصاد في العالم، ومع ذلك لا تكاد تتمتع بسدس ثقل أمريكا في صندوق النقد الدولي. رئيسان أمريكيان، جورج بوش وأوباما، فاوضا من أجل إصلاحات في صندوق النقد، لكن الكونجرس يرفض الانصياع. فمن الذي يستطيع في الواقع أن يلوم بكين على محاولة الاستقلال عن الصندوق؟ إذا لم يكن بمقدور الولايات المتحدة استيعاب الصين الصاعدة في الأجهزة التي تتزعمها، فإن الصين ستنشئ أجهزة خاصة بها. الجدل حول البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية ليس جدلا حول أمور خفية مقصورة على الخاصة. ضمن مؤسسات من هذا القبيل نتوقع أن يجري النقاش حول الزعامة العالمية في المستقبل.
في أوقات التغيرات الكبيرة، هناك إغراء بالعودة إلى التاريخ من أجل الحصول على الاطمئنان. ليس هناك ما هو جديد بخصوص قيام الكونجرس بإحداث الفوضى في السياسة الخارجية الأمريكية. مثلا رفْض الكونجرس التصديق على برنامج عصبة الأمم الذي اقترحه الرئيس وودرو ويلسون في 1919 كان مصيريا أكثر من أي شيء يجري الآن. غياب أمريكا عن المسرح العالمي أدى إلى نشوء فراغ ساعد على تمهيد الطريق أمام هتلر. وهذه سابقة غير مريحة نهائيا. على مدى العقود السبعة الماضية، كان الكونجرس في غالب الأحيان يلعب دورا مساندا للسياسة الخارجية الأمريكية. هذا العصر آخذ في الزوال بسرعة. لم يعد بمقدور الأجانب أن يستهينوا بالجمود على أنه جانب شاذ محلي. فهذا الجمود يفرض ضريبة فادحة بصورة متزايدة على زعامة أمريكا العالمية.