خضر حسان
ملف المياه من الملفات الحسّاسة التي تطرح يومياً على بساط البحث، إن على مستوى ترشيد الإستهلاك، أو تحلية مياه البحر، أو الاستفادة من ينابيع المياه العذبة الموجودة في البحر.. وما إلى ذلك. لكن الأهمية التي يحملها الملف، لا ترقى إلى مستوى الجدّية في ما يخص التنفيذ. ليدخل ملف المياه إلى ذات النفق الذي علق به ملف النفط، في حين أنّ إسرائيل، التي ننظر إليها بعين العداء والتنافس، قد بدأت بإحتواء “حصّتها” من النفط، وقبلها العمل الدؤوب لإستيعاب مياهنا، تحديداً المياه الموجودة في الجنوب. ويعود الإهتمام بمصادر المياه المذكورة، الى تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، إذ شدّد على أهمية ضم إسرائيل الجنوب اللبناني وجبل الشيخ إلى “الحلم الأكبر”، وهو امتداد الكيان من النيل إلى الفرات.
والتركيز الاسرائيلي على الاستفادة من المياه ليس عبثياً بل هو ناتج عن نظرة استباقية لأهمية المياه في تحديد شكل الصراع المستقبلي بين الدول، وداخل كل دولة، لما للأمن المائي من انعكاسات على الأمن الغذائي، وقد ظهر الإنعكاس بوضوح خلال حملة مكافحة الفساد الغذائي التي اطلقتها وزارة الصحة أخيراً. اذ اثبتت التحاليل المخبرية أنّ الملوث الأول للمواد الغذائية يأتي عبر المياه، وقد سلّط وزير الصحة السابق محمد جواد خليفة الضوء على هذا الوضع، غير مرة، خلال تعليقاته على الحملة التي اطلقها وزير الصحة وائل أبو فاعور.
برغم وضوح أزمة المياه في لبنان، إلا ان حجم العمل السياسي الرسمي لحل هذه الأزمة يساوي صفراً. لا بل أقل من صفر، إذا أخذنا في الإعتبار “إنجازات” وزارة الطاقة والمياه منذ نحو 7 أشهر، حيث أطلقت الوزارة “الحملة الوطنية لترشيد إستهلاك المياه”، والتي دعت فيها الى التقيد بإرشادات أقل ما يقال فيها أنّها بلا جدوى، منها على سبيل المثال “تجنب شراء الألعاب المائية الترفيهية لأطفالكم، إذ انها تتطلب تدفقاً مستمراً للمياه”، وإجراءات أخرى.
الصفر السياسي لم يعنِ غياب المبادرات كلياً، حيث تنشط جهات حكومية وغير حكومية في متابعة تطور ملف المياه، انطلاقاً من أهميته الاستراتيجية على الصعيد المحلي والعالمي، منطلقة من غطاء شرعي دولي، وهو اقرار الأمم المتحدة “يوم المياه العالمي” في قمة ريو ديجينيرو في العام 1992، خلال مؤتمر قمة الأرض للتنمية والبيئة. وقد اثمر العمل في هذا الاتجاه عن اطلاق تسمية “عام المياه والتنمية المستدامة” على العام 2015، وفق ما قاله نبيل عماشة، الاستاذ في كلية العلوم في “الجامعة اللبنانية”، خلال افتتاح ورشة عمل في يوم المياه العالمي، تحت عنوان “الإدارة المستدامة للموارد المائية في لبنان”، في الكليّة، في مجمّع الحدث الجامعي، بالتعاون مع الجامعة اللبنانية ومصلحة مياه الليطاني وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، وجمعية أصدقاء المياه.
المسعى الحثيث لاحتواء أزمة المياه يفترض به أنّ يُحدث “فرقاً في مستوى معيشة السكان، وخصوصاً ممن يعانون من مشاكل تتصل بالمياه، وذلك من أجل غد أفضل”، كما ذكر عماشة. غير أنّ تحسين المستوى المذكور تقابله عقبات تتصل بـ”النمو السكاني وازدياد الحاجة للموارد المائية”. وهذا النمو يرفع نسبة استهلاك المياه، ليصل “مصروف الفرد الواحد في لبنان الى 180 ليتراً في اليوم، وهذا رقم مرتفع نسبة لكميات المياه المتوفرة حالياً”. وفي النتيجة، وفق عماشة، “إنّنا نستنزف مياهنا الجوفية”.
عمل الجهات المهتمّة بالملف لا يفلت من لامبالاة القرار السياسي، فالدراسات والأبحاث لا تفضي الى إيجابيات، ما لم تُطبّق على الأرض. وبالتالي فإن إستحداث الجامعة اللبنانية “خلال السنوات الماضية لاختصاصات عديدة بمستوى الماستر، تعنى بالثروة المائية والتنوع البيولوجي والبيئة، بما فيها دراسة المياه الجوفية والسطحية والأحواض المائية، فضلاً عن إنشاء وحدات بحثية وإقامة شراكات علمية مع مؤسسات بحث عالٍ في الداخل والخارج”، لا يعتبر سوى قيمة نظرية إضافية على سجل الجامعة الوطنية، لا غير. فالإعداد النظري يبقى قاصراً إذا لم ينفذ. وهذا العرض المقتضب للإنجازات، الذي قدّمه عميد كلية العلوم في الجامعة حسن زين الدين، خلال الورشة، لم يُغيّب عرض الحالة المادية السيئة للجامعة، إذ أكد زين الدين على ان “عمل هذه الوحدات البحثية يحتاج الى مختبرات علمية قد لا تكون بمتناول اليد، نظراً لضعف موازنة الجامعة وإقتصارها على الامور التشغيلية والرواتب”.
وفي اطار معوقات الحل، فإن ملاحظة “طبيعة التربة اللبنانية” تبيّن ان هذه التربة “لا تشجع على تنفيذ مشاريع انشاء السدود… وهذا ما يثبت في الكثير من الدراسات لانشاء سد على نهر البردوني، وفي الكورة، ودار بعشتار، وجنة على نهر ابراهيم”، على حد تعبير وزير الزراعة السابق عادل قرطاس. وخلاصات قرطاس الذي عرض خلال الورشة للعديد من الإجراءات التي تتمحور حول الاستفادة وترشيد استهلاك المياه، اعطت سبباً طبيعياً لإغفال البحث حول انشاء السدود، وبالتالي اكمال مسلسل هدر المياه في لبنان.
تعقيد التقنيات وكثرة الابحاث في ظل الصمت السياسي، يفضيان الى خلاصة ان البحث في التقنيات المعقّدة واطلاق الارشادات، لا يعدوان كونهما مهرباً لعدم تنفيذ سياسات بسيطة، تُعتبر بدائية في زمننا هذا، وليس آخرها ما يكرره رئيس جمعية المزارعين في لبنان انطوان حويك، لـ “المدن”، حول بناء برك لإستيعاب مياه الأمطار، وحفر وتوسيع الآبار الإرتوازية… وغيرها. لكن سياسات “التعطيل” تبحث عن الحلول المستحيلة لتُفقد المشاريع قيمتها، لتعود بعد فترة الى طرح حلول ربحية لها، كإستيراد المياه من تركيا، واعفاء شركات الإستيراد الخاصة من الرسوم الجمركية، تماماً كما طرحته وزارة الطاقة والمياه، ولجنة الأشغال العامة، في خطتها الأخيرة لمعالجة شح المياه… فيقبع المواطن إزاء ذلك بين خيارين، إما الموافقة على إستنزاف جيبه وموارده المائية، أو التضرّع لقوى ما، علّها تحل أزمته.