بروفسور غريتا صعب
لا تزال الثقة تتراجع بين مواطني الاتحاد الأوروبي. واستطلاعات الرأي الأخيرة (Eurobarometer) تشير الى انخفاض كبير في ثقة أوروبيي الاتحاد. وقد تراجعت النسبة من 57 بالمائة في ربيع 2007 إلى 31 بالمائة في خريف 2013.
يعود تراجع ثقة الاوروبيين الى الأزمة المالية التي حدثت في العام 2008. ولا يمكن تحميل الاستثمارات أو الخدمات الاجتماعية ودعم فئات المجتمع الضعيفة، مسؤولية نمو الدين العام، بل ان المشكلة تكمن في النفقات الهائلة التي صرفت لانقاذ المصارف والمؤسسات المالية، كذلك بسبب التخفيضات الكبيرة في فرض الضرائب على رأس المال.
كذلك وبينما بعض الاصلاحات المؤسسية كان من المفترض ان تزيد المساءلة إلا ان الأزمة الحالية ضربت الاقتصادات الأضعف في الاتحاد الأوروبي وبصورة دراماتيكية ومن جميع الجوانب، وألقت الضوء على ضعف الاتحاد النقدي الأوروبي.
تزامن ذلك مع شروط تعجيزية فرضتها المؤسسات المُقرضة، ومن بينها الاتحاد الأوروبي، على الاقتصادات مما قوّض مصداقية الاتحاد كراعٍ للرخاء والديمقراطية.
أدّى ضعف الاستثمار إلى تعزيز الهياكل الأساسية الاجتماعية- الاقتصادية، وتأثر سلباً المحيط الأوروبي، ودفع ذلك الى الاعتماد اكثر فأكثر على الدول الأقوى ضمن الاتحاد.
والسؤال الذي يتبادر الى الأذهان هو: هل هنالك أمل بأوروبا اخرى لاسيما وان التغييرات التي حصلت بعد الأزمة المالية العالمية قلبت المقاييس وضربت أسس ديمقراطيات وقفت على ما تبقى من مفهوم التضامن والحريات؟ اصبحت اوروبا العدالة الاجتماعية والمشاركة الشعبية في السنوات الأخيرة مشكوك في أمرها مما يجعل من الصعب تصور اوروبا اخرى.
وجاءت الانتخابات اليونانية تشهد على حقيقة ذلك مع ما رافقها من انتهاك لكل مظاهر الديمقراطية والسيادة الوطنية، وأدّى فيما أدّى الى إضعاف حقوق الناخبين والعمال وتخفيض الخدمات الاجتماعية، بما جعل النمو الاقتصادي في العديد من هذه الدول صعب المنال.
لذلك وجب القول ان المفاهيم الأساسية التي بنيت عليها اوروبا في الأساس اصبحت مدعاة شك، وزاد من تطرّف الأحزاب اليسارية الرافضة لفكرة اوروبا واقتناعها بعدم القدرة على المضي في هذا المسار.
ويبدو ان التشكيك في المؤسسات الأوروبية الفاعلة، يقف وراء هذا التفكك الناشئ في الاتحاد، وانتقال السلطة من المؤسسات الاوروبية الى عواصم الدول ولاسيما برلين.
وهناك تلميحات بأن تشديد المانيا على الدول المديونة تحمل رائحة الرايخ الثالث، وقد تكون وراء السيطرة الالمانية الفعلية على ما يجري في اوروبا من امور اقتصادية وسياسية سببها ليس فقط قوة المانيا ونفحة الرايخ الثالث انما ايضاً التراجع الكبير للدول الأخرى لاسيما فرنسا وانكلترا.
اما تساؤل هنري كيسنجر عن الشخص الأول الذي يجب التحدث معه في اوروبا، فالواقع ان هذا الشخص لا يجلس في بروكسل بل قد يكون في مركز القرار الأصلي والذي هو برلين.هذا هو الواقع في ظل غياب اتحاد سياسي وتفاوت اقتصادي وضعف مؤسساتي ان داخلياً اي ضمن الدول او من خلال الاتحاد الاوروبي.
يحمل المستقبل عناوين جديرة بالاهتمام لا بد من أخذها على محمل الجد مثل بقاء اليونان في منطقة اليورو وبريطانيا في الاتحاد الاوروبي.
وبكلام آخر، هل يوجد هنالك فرصة أخرى لأوروبا تستطيع من خلالها اعادة التوازن الى نظامها المالي والمؤسساتي والتنظيمي ضمن المجموعة دون ان يكون مركز القرار في برلين علماً ان الواقع هو كذلك.
المانيا حالياً هي رابع اكبر اقتصاد في العالم، واقوى دولة بين 19 عضوا في كتلة اليورو، بالاضافة الى انّ البيت الداخلي الالماني منظم بشكل دقيق، والالمان يعتبرون انفسهم نموذجا يحتذى في بقية دول اليورو.
اضف الى ذلك التفاوت في المنطق الاقتصادي بين المانيا وبقية المجموعة فحيث ان المجموعة الاوروبية تسمي ما يجري في اليونان وغيرها من الدول المتعثرة «عملية تقشف» فإن المانيا تسمي ذلك عملية «اصلاح» ولذلك لا بد من القول «ان لدى الالمان نظرة خاصة في الاقتصاد ويريدون ان يطبقوها على العالم»، حسبما يقول أحد اساتذة الاقتصاد في جامعة Imperial في لندن.
الاختلاف قد يكون بالفكر الاقتصادي بالتحديد لاسيما وان الكثيرين يدعمون وجهة النظر التي تقول ان الاستثمار في القطاع العام يمكن ان يدعّم الاقتصاد، فان السيدة ميركل تختلف مع هذه النظرة وتقول ان للحكومة دورا محددا جداً، وان الأسواق لها دور كبير في انعاش الاقتصاد.
هذا القول صحيح اذا كانت وضعية الدول مثل وضعية المانيا حالياً حيث انه وللمرة الأولى منذ العام 1969 تصل المانيا الى ميزانية موازنة وتسجل اكبر فائض في الحساب الجاري في العالم بما يعني وجود فائض في المدخرات على الاستثمار.
علاوة على ذلك، فان مستوى البطالة في المانيا هو واحد من ادنى المعدلات في اوروبا، وقد وصلت هذه النسبة الى 4.7 بالمائة مقارنة بمعدل 11.2 بالمائة في دول أوروبا بينما اليونان تكافح مع 26 بالمائة نسبة بطالة.
هذه المؤشرات تعني فيما تعني انه يمكن لألمانيا التحكم بفكرها الاقتصادي مستندة بذلك على مؤشراتها الايجابية وهذا ما لا ينطبق على بقية دول المنطقة.
قد تكون المشكلة الحقيقية كامنة في كون الاقتصادات الاوروبية غير متماسكة على الرغم من انها نجحت في ضبط السياسة المتعلقة بالنقد واسعار الصرف، انما يفتقرون الى الارادة الكامنة في التحكم بالسياسات المالية.
وقد يكون التكامل الاقتصادي على المحك، لذلك قد تكون استطلاعات الرأي التي تجري حالياً في اوروبا عبر الانتخابات ليست سوى تعبير منطقي عن النقص الحاصل في عمل المؤسسات الاوروبية وتداخل السلطات الاقتصادية والسياسية ليس الا.
هذا مع العلم ان الأزمة اصبحت حرجة وقد تداخلت العوامل بعضها مع بعض، والأزمة المالية العالمية ابرزت تأثير العملة المشتركة على تعزيز اوجه التفاوت وخلقت وللمرة الاولى احزابا جديدة من اليسار الراديكالي الذي يكون مهتماً، ليس فقط في تغيير النمط الاقتصادي لاوروبا الحالية، انما قد يكون مهتما كثيرا بتغيير فكرة اوروبا ووحدتها.
هذا التفاوت لا يعني بالمطلق ان المانيا ماضية في سياستها دون الأخذ بالاعتبار امور عدة لاسيما وحدة منطقة اليورو وبقاء انكلترا ضمن الاتحاد الاوروبي. نرى ذلك من خلال تنازلات عدة قامت بها حكومة ميركل من اجل اعطاء الفرصة لليونانيين ليقتنعوا بضرورة الاصلاح الاقتصادي، ولبريطانيا لحل مشاكلها الداخلية، كذلك السعي الى سلام واقعي مع روسيا بسبب الوضع في اوكرانيا. لذلك قد يكون الواقع غير واضح المعالم، إلا ان المانيا ليست جامدة بتحركاتها.
ولكن، يبدو حسب مجلة الـ Economist، ان ميركل وفي المسائل الوجودية مثل انقاذ اليورو وابقاء فرنسا شريكاً قوياً لن تتردد في ممارسة سلطتها حتى ولو كان ذلك يعني قطع تعهدات او تقويض النظام.
يبقى القول ان لعبة اوروبا الحالية تتقاسمها عوامل عدة منها السياسي والاقتصادي والتنظيمي ومشاكلها كبيرة ومتفاوتة، واليونان ليست الأزمة الوحيدة التي تواجه القارة العجوز حالياً، اذ ان اوروبا في خضم ازمة اقتصادية، تهدد بتقويض عقود من التكامل الأوروبي وبعرقلة الانتعاش العالمي.
لذلك لم تعد اللعبة مقتصرة على خروج اليونان من اليورو او انكلترا من الاتحاد انما تتخطى ذلك الى أمور اكثر تعقيداً في حاجة الى اعادة نظر من اجل بقاء الاتحاد وانقاذ اليورو.