IMLebanon

«إتش إس بي سي» .. التوسع العالمي جلب معه مشكلات أخلاقية وإدارية

HSBC bank
جون بلندر

في ذروة الأزمة المالية في تشرين الأول (أكتوبر) 2008، كان المسؤولون التنفيذيون في “إتش إس بي سي” HSBC يشعرون بالقلق من أن الطوابير كانت تتشكل خارج الفروع الموجودة في المملكة المتحدة. على عكس نورثرن روك، الذي كان قد عانى تدافع العملاء لسحب ودائعهم في العام السابق، فإن هذا العملاق المصرفي العالمي لم ينفد منه المال. لقد نفدت منه الاستمارات التي تجب تعبئتها من أجل فتح حسابات جديدة. من الناحية العملية، كان “إتش إس بي سي” يخوض أمرا يعتبر المعادل في مصرفية التجزئة لما يطلق عليه أهل الأسواق المالية تعبير “الهرب إلى الجودة”، تماماً في الوقت الذي اضطر فيه مصرف لويدز إتش بي أو إس ورويال بانك أوف سكوتلند إلى اللجوء إلى الحكومة للحصول على دعم. وقال جو جارنر، رئيس الخدمات المصرفية للأفراد في ذلك الوقت، لمؤلفي هذا التاريخ الجديد للمصرف “إذا ظهر أي طابور على شاشة التلفزيون، فسيبدو الأمر كأنه تدافع العملاء لسحب الودائع. لذلك كنا نحشو الزبائن في فروعنا، في أماكن الموظفين، وخلف أي شيء. كنت أقول: انظروا، مهما حدث، لن يكون هناك أي طابور خارج أي من فروعنا (…) لا تدَعوا أي طابور يظهر تحت أي ظرف من الظروف”.

هذه الحكاية تدل على متانة أحد جوانب ثقافة مصرف بدأ حياته في مثل هذا الشهر قبل 150 عاماً باسم المؤسسة المصرفية لهونج كونج وشنغهاي، بتقديم تمويلات تجارية وتسهيلات دفع في موقع بعيد من مواقع الإمبراطورية البريطانية. كتاب “صحوة الأسد”، وهو تاريخ رسمي من تأليف المؤرخين ريتشارد روبرتس وديفيد كيناستون، يحكي عن تأريخ انفصال المصرف في السبعينيات والثمانينيات عن منطقة جنوب شرقي آسيا تحت قيادة مايكل ساندبرج وتحوّله اللاحق إلى واحد من مجموعات الخدمات المالية البارزة في العالم. مع وصول غير مسبوق إلى أرشيف مصرف إتش إس بي سي وإلى المسؤولين التنفيذيين، يُقدّم المؤلفان قصة لافتة للنظر وفي بعض الأحيان صريحة عن مؤسسة فريدة من نوعها على خلفية تحوّل الصين في عام 1978 ونقل السيادة على هونج كونج إلى بكين.

خلال جزء كبير من فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الأشخاص الذين أداروا مصرف إتش إس بي سي كانوا حصيلة روح الشركة الأبوية، على غرار الجيش. بدأوا حياتهم المهنية بالعيش في عنبر للعُزّاب في منطقة بيك في هونج كونج، حيث شكلوا روابط دائمة مع الزملاء وتعلّموا الولاء للشركة. المبدأ الأساسي لتدريبهم كان أهمية الانتباه للنفقات وجمع الودائع قبل إقراض المال. تعزَّز هذا التأكيد على الحصافة والسيولة من خلال تجربة التدريب العملي من خلال الأزمة المالية في آسيا عام 1997/ 1998، وبعد ذلك في أمريكا اللاتينية. عندما تسوء الأحوال، كانوا يعرفون ما يجب القيام به. وحسبما قال دوجلاس فلينت، رئيس مجلس الإدارة الحالية والمدير المالي السابق، روبرتس وكيناستون: “المصارف التي لا تحتاج إلى المال تحصل على المال، وهذا ما يحدث عادة مع “إتش إس بي سي” خلال الأزمات”. كل هذا يختلف كثيراً عن منافسه الأمريكي الكبير “سيتي جروب”، حيث تم تجاهل الحذر خلال موجة الإقراض في أمريكا اللاتينية في أواخر السبعينيات ـ ويجادل بعضهم بأن الحذر لم يَعُد بعد ذلك على الإطلاق.

للأسف، أمور أخرى كثيرة في ثقافة “مصرف هونج كونج” القديم، كما كان معروفاً، لم تنجُ من تحوّل المصرف إلى عملاق عالمي – وما عليك سوى النظر إلى المشكلات الحالية المتعلقة بالسمعة التي يُعانيها “إتش إس بي سي”. بعد الأداء القوي خلال الأزمة المالية، تعرّضت المجموعة لغرامات ضخمة بسبب التلاعب في سوق الصرف الأجنبي، وخرق العقوبات الأمريكية، وغسل الأموال لمصلحة عصابات المخدرات المكسيكية. كما اتُّهِم المصرف أيضاً بتسهيل التهرّب الضريبي في فرع الخدمات المصرفية الخاصة في سويسرا، وورد أن الموظفين كانوا يعطون العملاء “كميات” كبيرة من المال لا يمكن تعقبها بالعملات الأجنبية، وفي الوقت نفسه تأسيس شركات خارجية لإخفاء الثروات غير المُعلنة عن السلطات الضريبية.

وكما يُظهر المؤلفان بشكل واضح، الأخلاق والعمل الجماعي والولاء جميعها أصبحت أصعب في مصرف شامل يطمح إلى العالمية، زاد عدد الموظفين لديه من 171 ألفا في نهاية عام 2001 إلى 330 ألفا قبل الأزمة المالية العالمية. وعمليات الاستحواذ الكبيرة أدت إلى تخفيف التماسك، في حين إن وصول مصرفيي الخدمات الاستثمارية ذوي الأجور المُبالغ فيها أوجد خلافات مع الزملاء الأقل لمعاناً الذين يعملون بجد. ويُشير الكتاب بشكل لافت للنظر إلى أن السير ويليام “ويلي” بورفيس، أحد رؤوساء مجلس الإدارة الأكثر شراسة في “إتش إس بي سي”، لم يكُن حتى من أعلى أصحاب الأجور الـ 25 في المصرف عند تقاعده في عام 1998.

لم يكُن “إتش إس بي سي” فريداً من نوعه في هذا المجال. سلسلته من عمليات الاستحواذ، خاصة في الولايات المتحدة، اتبعت نمطاً مألوفاً في المصارف البريطانية الأخرى. في عام 1980 مع مارين ميدلاند، المصرف الإقليمي في نيويورك، وفي عام 2003 مع هاوسهولد إنترناشونال، ثاني أكبر شركة للتمويل الاستهلاكي في الولايات المتحدة في ذلك الحين، حصل “إتش إس بي سي” على حصة كبيرة في شركات كانت تتعرض لتحدّيات استراتيجية. بعد ذلك وقف باحترام على الهامش في الوقت الذي كانت فيه الإدارة الأمريكية عاكفة على تطبيق حلول خاطئة لمشكلاتها، تنطوي على نمو محموم تعقبه خسائر كارثية. إلى حد كبير الشيء نفسه حدث مع استحواذ مصرف ميدلاند على مصرف كروكر الوطني في كاليفورنيا، وعلى نطاق أصغر، مع غيره من المصارف البريطانية التي نفذت عمليات استحواذ. في المقابل، استحواذ “إتش إس بي سي” على مصرف ميدلاند في المملكة المتحدة كان نجاحاً باهراً.

المكان الذي كان فيه إتش إس بي سي مختلفاً هو حجم طموحه، خاصة في عهد جون (الآن السير جون) بوند، الرجل الذي جسد كثيرا من أفضل ما في ثقافة “إتش إس بي سي” القديمة. بوند، جنباً إلى جنب مع كيث ويتسون، الرئيس التنفيذي اللاحق، أنجزا عملا بارعا في تحويل مصرف مارين ميدلاند. لكن عندما تمت مواجهته، بصفته رئيس مجلس الإدارة، مع شركة هاوسهولد ومحفظتها من الديون العقارية عالية المخاطر، افتقر لحاسة الشم، بحسب الدليل الموجود في الكتاب، وهو الشرط الذي لا غنى عنه لأي مصرفي يهتم بعمليات الاستحواذ. جميع إشارات التحذير كانت موجودة: اتهامات بعمليات إقراض استغلالية، ودعاوى قضائية، وتعديات تنظيمية، وإعادة صياغة لبيانات الحسابات. لكن هاوسهولد سدت فجوة واضحة في محفظة “إتش إس بي سي” العالمية. وفي النهاية عملية الشراء تلك، البالغة 14 مليار دولار، أصبحت بلا قيمة.

هناك محاذير مماثلة تنطبق على عملية الاستحواذ على مصرف ريببلك Republic من إدموند صفرا في عام 1999. كانت هناك ثقافة في مصرف ريببلك تقوم على تجاهل اللوائح المكتوبة. والمزاعم اللاحقة بالتهرب الضريبي من قِبل عملاء “إتش إس بي سي” كانت أصولها ترجع إلى مصرف سويسري خاص تابع لمصرف ريببلك. ما يجعل كل هذا غريباً على نحو مُضاعف هو أن بوند، الذي حذّر المسؤولين التنفيذيين من “حمى الصفقات”، كان مدركا للموضوع، كما يكشف الكتاب، بحيث إنه رد دعوات للحصول على حصص في “ليمان براذرز” وصندوق لونج تيرم لإدارة الأموال، والاستحواذ على مصرف آيه بي إن أمرو ـ المؤسسات الثلاث جميعا فشلت في وقت لاحق. العزاء الوحيد كان أن “إتش إس بي سي” أدرك في وقت أبكر من منافسيه مدى الانخفاض في جودة الائتمان في جميع أنحاء النظام المالي قبل الأزمة المالية. ونظراً لمتاعب “إتش إس بي سي” في الآونة الأخيرة، هل هناك خطر أن هذا التاريخ تجاوزته الأحداث بالفعل؟ ليس تماماً، لأن أسباب جميع الأضرار المُكلفة للغاية الخاصة بالسمعة يمكن العثور عليها في الكشف المُقنع في الكتاب للمشكلات الإدارية الكامنة في إدارة النمو والتنويع. ثقافة مصرف هونج كونج القديم كانت فيدرالية بشكل خفيف، مع سلطة هائلة مخوّلة للمديرين المحليين في البلاد. ومع نمو “إتش إس بي سي” أصبح الصراع حادا بين هؤلاء الرجال – خلال معظم الفترة كان هناك عدد قليل من المسؤولات التنفيذيات البارزات – والأشخاص المسؤولين عن خطوط الإنتاج في لندن. كما كانت هناك صراعات متزايدة فيما يتعلق بالقيم الأخلاقية، ولا سيما قضايا التهرّب الضريبي التي تمت الإشارة إليها سابقاً التي ظهرت أثناء عهد ستيفن (الآن اللورد) جرين، الذي كان الرئيس التنفيذي، ثم رئيس مجلس الإدارة، في الأوقات ذات الصلة. جرين كان كاهن كنيسة إنجيلية، وهو معروف بكتاباته الواسعة عن الأخلاق والأعمال. ويذكر الكتاب سرقة أحد الموظفين في عام 2010 تفاصيل حسابات 15 ألف عميل من المصرف السويسري الخاص التابع لمصرف إتش إس بي سي، الذي كان نقطة البداية لفضيحة التهرّب الضريبي، لكن في حين إنه يُشير إلى الحادثة على أنها “مصدر إحراج كبير”، إلا أنه لا يتناول بالبحث دور جرين في تلك الرواية.

وكثير من المتاعب كانت بسبب هياكل الحوافز المصممة بشكل سيئ في المجموعة الواسعة وكذلك بسبب ضغوط أسواق رأس المال. هذه بلا شك تُفسّر السبب في شعور “إتش إس بي سي” بأنه مُلزم بالخوض في المنتجات التي تمت هيكلتها بشكل سام قبل الأزمة، على الرغم من غرائز مديريه المُحافظة؛ وكذلك السبب في كون المديرين في المكسيك كانوا متهاونين بشأن غسل الأموال، والسبب في أن وظيفة الامتثال كانت تفتقر إلى العاملين والأموال. لكن روبرتس وكيناستون استنتجا أنه في حين إن الثقافة كانت في حاجة إلى إعادة انتعاش ولم يكُن يتم نقلها بفاعلية إلى جميع أرجاء المجموعة، إلا أن أداء “إتش إس بي سي” القوي خلال الأزمة المالية كان نتيجة “نقاط القوة الثقافية العميقة”. ما يظهر بوضوح شديد من هذا التاريخ الذي يدل على خبرة المؤلفين، والممتع من أوله إلى آخره، هو الطبيعة الرائعة للمؤسسة والأشخاص الذين يقومون على إدارتها. مع ذلك، الأمر الذي لا يزال أكثر روعة، هو التحوّل المذهل في هونج كونج على مدى الأعوام الـ 50 الماضية. يمكن أن أقول إن العبقرية اللاواعية لمصرف إتش إس بي سي كانت ببساطة في المكان المناسب والوقت المناسب. كذلك يُلاحظ المؤلفان، وهي ملاحظة في مكانها، أن المصرف في كل مرة يتعرض فيها للمتاعب في الخارج يأتيه حبل الإنقاذ من هوامش الربح الضخمة في النظام المصرفي المُنظم في هونج كونج. وهذا بالطبع، أصبح من الماضي، و”إتش إس بي سي” يواجه الآن عالماً أكثر صرامة، مع أنه ربما ليس أكثر شجاعة، حيث الانكماش في الخدمات المصرفية هو الوضع السائد في هذه الأيام.