بيسان زيات
تمتاز بلدة الجية في قضاء الشوف، بالزراعة المحلية التي تتغذى من مناخ المنطقة المعتدل وتربتها الغنية. عدد كبير من السكان لا يزال يعتمد بشكلٍ أساسي على الزراعة، مع وجود مساحات زراعية كبيرة لا تزال “منتصرة” على “الباطون” الذي يأكل الأراضي مع الوقت.
تمتد من مبنى البلدية إلى مدخل “الجية مارينا” و”الغولدن توليب” خيم لبيع الخضار تتوزع على جانبي الطريق الساحلية. أصحابها يزرعون الأرض بأيديهم. يستيقظون باكراً كل صباح للقطاف الذي قد يستغرق ساعة عند البعض ويصل الى خمس ساعات عند آخرين. يبيعون الغلة من الحقل مباشرةً إلى المستهلك.
“إذا بتُنطر شوي، بنزل عالحقلة بجبلك”، تقول أم مارون لأحد المارة الذي يطلب بعضاً من الروكا التي نفذت من عربتها. هي خيمة بيع الخضار الأولى التي تصادفك على بعد أمتار من البلدية. أم مارون هي الأشهر والأظرف هنا، على الرغم من قلّة الأصناف التي تزرعها وتبيعها طازجةً من أرضها الصغيرة. تجلس على كرسيها الخشبي العتيق أمام الخيمة التي ترتّب فيها ما تجمعه كل صباح.
“تُنقّي” أم مارون البقدونس والكزبرة و”الهندبة” وغيرها من الحشائش قبل عرضها للبيع. تجلس ساعة أو ساعتين صباحاً، لتعطي دورها بعد ذلك لزوجها. لكن سرعان ما يختفي الكرسي الخشبي عند الظهيرة لأنّ العجوزين لا يقدران على مواظبة العمل في الخيمة طوال النهار، فللعمر حقّه، وهما يبيعان المنتجات بدافع “تمضية الوقت”.
“سمر” واحدة من الزبائن تقول لـ”المدن” إنها تفضّل أن تستبقظ باكرا “تا إلحق أم مارون قبل ما تسكر لأنّ الخُضرا هون بتسوى دهب”. سعر البقدونس في “السوبرماركت” الكبير المجاور لأم مارون يبلغ 500 ليرة لبنانية، لكن أم مارون تبيعها بـ750 ليرة. “طوني” واحدٌ من كثيرين لا يتردّدون بدفع 250 ليرة لبنانية إضافية على ضمة البقدونس، فهنا هي أطرى ورائحتها طبيعية طازجة، “باخد البقدونس ودغري عالفرم، ما في داعي نضيّع وقت نحنا وعم ننقّيها”.
في الجهة المقابلة لأم مارون، يجلس جوزيف على كرسي بلاستيكي مع عربة صغيرة محمّلة بالفول الأخضر والفريز البلدي. يعمل يوميا على بيع ما تقطفه وتحضّره له أخته في الصباح.
على بعد نحو 100 متر من عربة جوزيف، تملك “أم بلال” أرضاً تزرع فيها الخضار وتعمل منذ ثماني سنوات في بيع منتجاتها. الأرض هنا أكبر، الخمسة دونمات بحاجة إلى عدد من العمال لتلبية احتياجات الأرض من زراعة وقطاف وري وغير ذلك. “لدينا بعض العمال لكننا، أنا وأختي، ندير العمل. كل الخضار التي ترينها من أرضنا، لكننا نحضر الفواكه من الخارج ونبيعها مع بضاعتنا”.
يأخذنا “عاكف”، وهو يعمل مع أم بلال منذ نحو أربع سنوات، في نزهة بين المزروعات. في بداية الجولة، يستقبلك كلب ضخم ينذر أصحاب الأرض بوجود “دُخلاء”. زُرعت الأرض، التي تمتد من الطريق الساحلية نزولا إلى البحر، بأنواع كثيرة من الخضار. فتجد الخيار، البندورة، البقدونس، الكزبرة، الفليفلة، الفول، اللوبية، الذرة، الفريز، الكوسا، الخس، الملفوف، البروكولي، البصل، وسيقان البندورة الكرزية الحمراء الجميلة… المنطر الخلاب يدفعك إلى أن “تستحلي” قطف بعضٍ منها بيديك.
تؤكد أم بلال أنها لا تستخدم أي مواد كيماوية لتحسين الإنتاجية، فهمّها أن تُرضي الزبائن بمنتجات طبيعية 100%. “الزبون يعرف أن المنتجات طبيعية، ويمكنه من الرائحة والشكل أن يميز بين ما نبيعه وما يباع في السوق والمحال الكبيرة”. أما عن الأسعار فتقول “أسعارنا لا تختلف عن المحال الأخرى. ولو قررنا رفع الأسعار، لن نخسر أياً من الزبائن الذين يثقون بمنتجاتنا”، مع الإشارة إلى أنّ أصحاب الخيم يدفعون ضريبة شهريّة للبلدية.
الزراعة المحلية في الجية، والتي يمارسها عدد كبير من سكان المنطقة ليست بالأمر الجديد. يشير رئيس بلدية الجية، جورج القزي، في اتصال مع “المدن”، إلى أنّ “الجية معروفة بأنها منطقة زراعية منذ الستينيّات حين كانت الطريق البحرية هي الخط الرئيس بين بيروت وصيدا. حتى هذه اللحظة، لا يزال أكثر من 50 في المئة من الناس هنا يعيش من الزراعة”. وعمّا تقدّمه البلدية لهؤلاء المزارعين، يقول: “يقتصر دورنا على تأمين بعض الأدوية لمكافحة الفئران لتجنّب الأوبئة والأضرار على المزروعات. وفي حال العواصف، نعوّض على بعض المزارعين الذين تتضرر خيمهم، وهذا ما حصل في العاصفة الأخيرة”. ويضيف القزي بأسى “الدولة لا تنظر إلى حالهم وهم مزارعون متواضعون إمكاناتهم قليلة”.
أما الجهة الأساسية التي تدعم المزارعين وتؤمن لهم احتياجاتهم فهي التعاونية الزراعية في الجية، وهي تقدم إرشادات وتنظر في أوضاع المزارعين ومشاكلهم. كما أنها تشارك في ندوات في بعض الأحيان بالتعاون مع وزارة الزراعة ومنظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة.
الخضار في الجية إذاً “بتسوى دهب” كما يرى زبائن أم مارون وجوزيف وأم بلال. هي جنة زراعية لا تحوي على كيماويات، والمزارعون يعتنون بالأرض “من كل قلبهم”. الأمن الغذائي هنا مؤمّن، إشترِ الخضار وتناولها بعينين مغمضتين!