Site icon IMLebanon

الاستقراء الاستراتيجي الفاعل من خلال التنمية المستدامة

ProspectiveStrategic
يعرف المشرب الفكري المتعلّق باستقراء المستقبل الذي يتم تصنيفه تحت عنوان «الاستقراء الاستراتيجي» ازدهاراً كبيراً في رسم استراتيجيات الشركات والمجموعات الاقتصادية والمالية والدول عموماً في البلدان المتقدمة. وإذا كانت مادته الأساسية عند بداياته هي محاولة رسم استراتيجيات الحاضر على ضوء «قراءة» المستقبل، فإنه يعرف اليوم انعطافة جديدة، أو مرحلة جديدة، تتمثّل في «محاولة توضيح الفعل الراهن ــ على مختلف مستويات الاهتمام ــ على ضوء توقـــعات المستقبل الممكنة أو المرغوبة».

وتحت إشراف «فيليب دورانس»، الأستاذ الجامعي في مجال استراتيجيات التسيير الاقتصادي، وبمساهمة مجموعة من الباحثين، صدر قبل أشهر كتاب جماعي تحت عنوان «الاستقراء الاستراتيجي الفاعل» الذي يسهم فيه أكثر من عشرين باحثاً وخبيراً معترفاً بكفاءتهم في ما يتعلّق بالآفاق الاستراتيجية للتنمية المستدامة. وهم من الذين يعملون، أو كانوا قد عملوا، في «المدرسة الفرنسية للدراسات المستقبلية» ذات الشهرة الدولية.

يبحث المساهمون في أربعة محاور ــ خمسة أقسام في تصنيف محتويات الكتاب ــ لها علاقة بحاضر الدراسات المستقبلية وغاياتها في منظور الغد. وتعنى أوّلاً بتقديم نوع من «الجرد» حول محصّلة أعمال أربعة عقود في مجال الدراسات المستقبلية؛ ثم البحث في إمكانية إعادة النظر وتعميق بعض الأسس والمفاهيم الجوهرية في ممارسة تلك الدراسات؛ وتقييم الطرائق المتبّعة في البحث على ضوء الواقع الراهن؛ وأخيراً محاولة استشراف بعض التوجهات المطلوبة بالنسبة إلى المستقبل، وعلى أساس أن البشر ليسوا فاقدين للفعل أمام تعقيدات الواقع ومشكلاته.

والإشارة بداية أن الرؤية المستقبلية كانت في بداياتها نوعاً من «الموقف الفكري» أكثر مما هي «طريقة في التحليل» أو «مشرب علمي» له مدارسه وممارسوه. أمّا ظهور مثل هذا المشرب فيتم تحديدها في سنوات الخمسينيات من القرن الماضي تحت عنوان عريض هو «التوقّع والاستقراء من أجل توجيه العمل»، ذلك عبر «النظر بعيداً وبأفق واسع وبعمق».

مثل ذلك المفهوم تطوّر في ما بعد لتغدو الدراسات المعنية بالمستقبل إحدى الأدوات التي تلجأ إليها السياسات العامّة للمؤسسات والشركات الاقتصادية والسلطات العامّة في منظور «تقليص هامش» القلق حيال ما يخبئه المستقبل، بل محاولة استقراء هذا المستقبل بأكبر قدر ممكن من الوضوح، ومن ثم تحديد «التوجّهات الكبرى» التي يمكن أن تسوده غداً، وبناء عليه رسم سياسات اليوم على أساس ذلك.

الغاية الرئيسة من هذا الكتاب يتم تحديدها انطلاقاً من «ضرورة التفكير والعمل بطريقة أخرى»، ذلك عبر أخذ «التبدّل الحاصل» على صعيدي «المعطيات» و«الممارسات» التي ترتبت على الثورة الرقمية بالحسبان.

ومن المراحل الأساسية التي يتم تأكيدها في النظرة إلى المستقبل ضرورة فهم الحاضر «بكل تعقيداته وجوانبه». وفي الوقت نفسه، القيام بمحاولة «رصد» التحولات الكبرى الممكنة على مختلف الصعد، خاصّة الاقتصادية والاجتماعية، وعبر محاولة صياغة «سيناريوهات» للحد من الآثار السلبية التي يمكن أن تترتب على تلك التحولات، وليس الانتظار حتى تقع «الأزمات»، ومن ثم مواجهة «نتائجــها» تحت ضغط «الضرورة الملحّة».

ويفيد الكتاب أنه ينبغي علينا أن نغيّر من نمط التفكير ونمط العيش. من هنا بالتحديد يكون دور الدراسات التي تعنى بالمستقبل هو المساعدة على «امتلاك قدرة تصوّر مستقبل آخر، والتجديد من أجل بلوغ ذلك».

وكتاب يضم العديد من المساهمات التي تعالج مسائل استقراء المستقبل في مختلف الميادين والنشاطات، بحيث أن هذا العمل «يسمح بالتفكير في غايات ما نملكه من أشكال التنظيم، ومن ثم التفكير في مجتمعنا عبر التركيز على القيم، وليس على مجرّد فعالية الوسائل فقط»، كما نقرأ في إحدى جمله الأخيرة.