IMLebanon

«لا كايشا» .. محرك كاتالوني لدفع الاقتصاد الإسباني

LaCaixaSpain
توبياس باك

في أفينيدا دياجونال في برشلونة، ليس بعيدا عن ملعب كامب نو لنادي برشلونة، تشاهد اثنين من الأبراج المظلمة تم بناؤهما في أوائل السبعينيات من أجل مصرف ادخار إقليمي متوسط الحجم ومؤسسة خيرية مرتبطة به. ليسا طويلين أو مبهرجين بشكل خاص، لكنهما يوفران قاعدة مناسبة لمصرف تم تأسيسه لحماية المدخرات المتواضعة للطبقة العاملة في المدينة.

40 عاما مضت، والمقر الرئيس للمصرف يبدو كثيرا كما كان دائما – لكن ليس هناك ما هو متواضع بشأن الإمبراطورية المالية والصناعية مترامية الأطراف التي هي مجموعة لا كايشا La Caixa اليوم. مصالح المجموعة تراوح بين الخدمات المصرفية للأفراد في إسبانيا، والاتصالات في البرازيل، وحقول النفط في كندا، ومحطات توليد الطاقة في المكسيك؛ وتتطرق إلى السياسة والإعلام، وتمول أعمالا فنية ومشاريع اجتماعية لا تعد ولا تحصى. “كايشا” التي هي في جزء منها مصرف، وجزء مجموعة قابضة، وجزء مؤسسة خيرية، هي المحرك القوي، لكن الهادئ في إسبانيا – المعروفة قليلا في الخارج، لكن تتمتع بنفوذ كبير في الداخل.

مجموعة كايشا أيضا هي أحد الناجين. فرعها المصرفي هو مصرف الادخار الإسباني الكبير الوحيد الذي خرج من الأزمة المالية الأخيرة في البلاد سالما، واشترى مجموعة من المنافسين المنكوبين على طول الطريق. اليوم، مع اكتساب انتعاش إسبانيا قوة دفع أكبر، فإن امتداد مجموعة كايشا الاقتصادي والسياسي لم يكن قط أكبر مما هو اليوم. مع ذلك، الطموح داخل تلك الأبراج يتألق مثلما كان في أي وقت مضى: يقول إيسيدرو فايني، رئيس مجلس الإدارة المخضرم: “أنا أريد لمصرف كايشا أن يكون واحدا من أكبر المصارف في أوروبا. ولن أتنفس الصعداء حتى نحقق هذا”.

وخلال جزء كبير من الماضي القريب، طغى على مصرف كايشا المصرفان الإسبانيان المعروفان، بانكو سانتاندر وBBVA، وكلاهما يملك عمليات كبيرة خارج سوق إسبانيا (ويساويان أكثر في البورصة). لكن في إسبانيا نفسها، مصرف كايشا هو الرقم واحد بلا منازع. وهو يتباهى الآن بفروع وزبائن أكثر، ومحفظة قروض محلية أكبر من أي مصرف آخر في إسبانيا – وأوضح أنه سيفعل كل ما يلزم للحفاظ على هذا التقدم.

أدوار متعددة

الدعامة الحقيقية لقوة كايشا هي محفظة المجموعة من حيازات الأسهم الكبيرة في عديد من كبريات الشركات في إسبانيا، من مجموعة النفط والغاز “ريبسول” إلى مزود الطاقة “غاز ناتشورال” وشركة الهواتف الخليوية العملاقة “تيليفونيكا”. تلك الحيازات تمنح المجموعة القائمة في برشلونة نفوذا لا مثيل له، ومقاعد حاسمة في مجالس الإدارة، في كثير من الشركات الإسبانية. سواء كانت هناك صفقة لإتمامها، أو رئيس تنفيذي للإطاحة به، أو مزاود أجنبي لتخويفه، مجموعة كايشا ورئيس مجلس إدارتها الموجود في كل مكان بالكاد ستكون بعيدة عن الإجراءات المهمة.

في المجال السياسي، أيضا، من الصعب تجاهل امتداد مجموعة كايشا. فقد لعبت المجموعة دورا حاسما في حملة الحكومة لإصلاح القطاع المصرفي الإسباني. كذلك تعد لاعبا رئيسا في الصراع على استقلال كاتالونيا، من خلال ممارسة الضغط على كل من مدريد والحكومة الإقليمية لتخفيف التوترات والتوصل إلى تسوية متفق عليها. مجموعة كايشا قريبة من الأسرة الملكية (تعمل لديها شقيقة الملك، الأميرة كريستينا)، وأنشأت كذلك روابط مالية وشخصية قوية مع عديد من وسائل الإعلام الأكثر أهمية في إسبانيا. ومن النادر قراءة كلمة سيئة عن المجموعة الكاتالونية سواء في صحافة برشلونة أو صحافة مدريد.

وتدعي المؤسسة أنها ثالث أكبر مؤسسة خيرية خاصة في العالم، لا يتفوق عليها سوى مؤسسة جيتس في الولايات المتحدة وويلكوم ترست في المملكة المتحدة. وتملك ميزانية سنوية تبلغ 500 مليون يورو، وأصولا تبلغ قيمتها أكثر من 20 مليار يورو. وهي تمول اثنين من أرقى المعارض الفنية في إسبانيا، إلى جانب مئات المشاريع في مجالات مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والعلوم، والتنمية الدولية. وحتى في الموت، مجموعة لا كايشا تطالب بدور: أكثر من 15 ألف إسباني مريض في مراحلهم الأخيرة استنشقوا أنفاسهم الأخيرة تحت رعاية ممرضين وعلماء نفس خففوا من آلامهم برعاية المؤسسة.

مجموعة كايشا نفسها هي بصحة ممتازة. لكنها لا تخلو من تحدياتها – داخليا وخارجيا، ماليا وسياسيا. ربما الأمر الأكثر إلحاحا هو مستوى الربحية الضعيف في مصرف كايشا، الذي لا تجني عملياته الأساسية سوى قليل من المال، وهذا يعتمد بشكل كبير على أرباح الأسهم من محفظته الاستثمارية لدعم الأرباح. وفي المجال السياسي، من المرجح أن يعاني مصرف كايشا في حال خرجت التوترات بين مدريد ومنطقته الأم عن السيطرة. أخيرا، هناك مسألة هيكلة وتنظيم المجموعة، وما إذا كان بإمكان مجموعة كايشا بالفعل أن تشارك في عدة مجالات كما هو الحال في الوقت الراهن، وإذا كان الأمر كذلك، فمن سيقود العرض.

كفاح ونفوذ

في الوقت الحالي، هذا الرجل هو فايني، رئيس مجلس الإدارة البالغ من العمر 72 عاما، لكل من مصرف كايشا ومؤسسة كايشا. فايني، ابن فلاحين أميين من كاتالونيا، نشأ في منزل بدون ماء أو كهرباء، وبدأ العمل في عمر 13 عاما في ورشة لإصلاح الدراجات الهوائية. على مر السنين، اكتسب الثروة والمكانة، وحجرة خاصة في دار الأوبرا الأنيقة “ليسو” في برشلونة، وذوقا للعبة الجولف، وحلفاء أقوياء مثل الملياردير المكسيكي كارلوس سليم ورئيس شركة تيليفونيكا، سيزر أليرتا.

لكن فايني لا يملك الكثير من القواسم المشتركة مع نخبة القطاع المصرفي سلسي الحديث في مدريد. وهو متدين بعمق وأب لثمانية أطفال، ويحب مشاركة الحكايات التقليدية وحصافة البائع التي حصل عليها خلال سنوات الشقاء. ويؤمن بالبساطة، ولا يحتفظ بأكثر من ثلاثة أشياء في رأسه في الوقت نفسه. وعلم والديه القراءة والكتابة، لكنه يقول إنه تعلم كل شيء موجود لتعلمه من والده ووالدته.

عادة ما يوصف فايني بأنه رجل الأعمال الأقوى في إسبانيا، لكن في مقابلة مع “فاينانشيال تايمز” يضحك رئيس مجلس الإدارة من هذا الوصف ويقول “لا وجود للقوة بالنسبة لي – فقط الخدمة”، قبل أن يضيف للتأكيد: “أنا لا أهتم بالقوة”.

نفوذه لا ينبع فقط من على ماذا يسيطر، لكن كيف يسيطر عليه. فايني يتمتع بحرية حكم يمكن القول إنها فريدة من نوعها بين المديرين غير المالكين في الشركات الدولية الكبيرة. يقول أحد كبار السياسيين الإسبان: “فايني يتمتع بقوة كبيرة. في هذه المرحلة مجموعة كايشا هي بمنزلة عرض مكون من رجل واحد”.

لا تقوم المؤسسة ولا المصرف بوضع قيود حكم ملموسة على رئيس مجلس إداراتها. في المؤسسة، نجده محاطا بمزيج انتقائي، لكن بالكاد مخيف من أعضاء مجلس الإدارة. من ضمنهم يوجد صيدلي، وعالم أحياء بحرية، وناشر صحف، وشركاء أعمال لفترة طويلة، مثل أليرتا، إلى جانب شخصيات سياسية، مثل خافيير سولانا، الأمين العام الأسبق لحلف الناتو.

في الوقت نفسه، المصرف لا يخلو من التنفيذيين المختصين، لكن لا يصل أي منهم إلى مرتبة منافسة قوة فايني. عندما يصطدم مع كبار المديرين – كما حدث العام الماضي مع خوان ماريا نين، الرئيس التنفيذي السابق ذي الخبرة الذي لا يهدأ – يتم إخراجهم بسرعة. حصة المؤسسة مهيمنة للغاية بحيث لا يستطيع أي مساهم آخر أن يأمل بممارسة ضغط كبير على الإدارة. يقول أندرو ميسي، رئيس تحرير مجلة “البدائل الاقتصادية” القائمة في برشلونة: “هذه سلطة مالية كبيرة لكن بدون قيود. المساهمون لا يملكون الكثير من السلطة في المصرف”.

الهيكلة المذهلة ومدى الطموح غير العادي في مجموعة كايشا يترسخان في الشيء نفسه – مكانة المصرف السابقة باعتباره مصرف الادخار الإقليمي “كاجا”. لقد تم إنشاء مصارف كاجا لتوفير الخدمات المالية الأساسية للمدخرين والشركات المحلية، ولمساعدة التنمية الاقتصادية عن طريق إعادة تدوير أرباحهم في مناطقهم. وفي أكثر الأحيان، كانت هناك علاقة وثيقة بين رؤساء مصارف كاجا والسياسيين.

انهيار 2008

تراجعت مصارف كاجا خلال طفرة العقارات التي استمرت عشرة أعوام في إسبانيا. المصارف التي لم تعد تقتصر على منطقتها المحلية (كما كانت بحسب القانون حتى عام 1988) توسعت وقدمت القروض بتهور. وعندما انهارت الطفرة بعد عام 2008، انهارت جميع مصارف كاجا، باستثناء مجموعة صغيرة منها. من مصارف الادخار الأكبر، وحدها مجموعة لا كايشا نجت، واستغلت الميزانية العمومية والإدارة المتفوقة فيها للسيطرة على سبعة من نظيراتها المضطربة.

يقول جوردي كانالز، عميد كلية إيسي للأعمال: “لقد كانت واحدة من مصارف الادخار القليلة جدا في أوروبا التي دائما ما أدركت أهمية وجود إدارة جيدة”. على عكس عديد من منافسيها، يقول، إن مجموعة كايشا لطالما كان ينظر إليها على أنها “مؤسسة متطورة” تجمع بين التكنولوجيا المتقدمة والنهج الحكيم في الإقراض.

هناك عامل آخر كان يعمل لمصلحة مجموعة كايشا هو أنها كانت كبيرة جدا على نحو يجعل من غير الممكن أن يسيطر عليها السياسيون المحليون. يقول البروفيسور كانالز: “كانت هذه المصارف دائما حذرة بشأن حفظ استقلالها عن السياسة، على عكس عديد من مصارف الادخار الأخرى. بالتالي مجموعة لا كايشا نجت والغالبية العظمى من مصارف الادخار اختفت”.

ليست كايشا المؤسسة هي التي نجت فحسب، لكن أيضا – على الأقل في ذهن فايني – فكرة مصرف الادخار بوصفها محركا للتغيير. يقول أحد المصرفيين من مدريد: “إن فايني كان من كبار المؤمنين بأنموذج مصارف كاجا. لقد كان كاجا بمنزلة مؤسسة قامت بخدمة هدف اجتماعي وحدث أيضا أنها كانت مصرفا. لكنه قام بتوسيع هذا المفهوم على نطاق واسع جدا: بالنسبة له، مصرف كاجا كان يملك هدفا اجتماعيا، واقتصاديا، وحتى سياسيا. بهذه الطريقة قام بتبرير الحيازات الصناعية”.

فايني لا يجادل في أنه يسعى وراء أهداف متعددة، لكنه يصر على أن المؤسسة والمصرف في نهاية المطاف يملكان المصلحة نفسها: “من دون المصرف لا توجد أعمال خيرية. ومن دون أرباح، لا يوجد شيء”. لكن الأمر اللافت للنظر هو كيف تتحقق أرباح مصرف كايشا: نحو 80 في المائة من الأرباح قبل الضرائب تأتي على شكل أرباح أسهم من تيليفونيكا، وريبسول، والحيازات القليلة من الأسهم في مصارف في المكسيك والصين والبرتغال وأوروبا الشرقية. يقول أحد محللي المصارف إن هذه الحيازات “تستهلك الكثير من رأس المال ولا تضيف أي قيمة، – لكن مجموعة كايشا لا تستطيع بيعها؛ لأنه عندها سيصبح واضحا أن بقية الأعمال المصرفية أساسا لا تجني الأموال”.

وأطلقت مجموعة كايشا أخيرا استراتيجية خمسية تهدف إلى رفع الأرباح والعوائد على الأسهم. وهناك محللون فوجئوا باستمتاع من خصوصية الالتزامات، لكن عديدا منهم يشك فيما يتعلق باستراتيجية مصرف كايشا الأوسع. وعلى عكس منافسيها الرئيسين، المجموعة الكاتالونية لا تزال مكشوفة بشكل كبير في السوق المصرفية الإسبانية، مع قليل من الوجود الدولي الملموس. فبالكاد يمكن اعتبار محاولتها الأخيرة للتوسع – عرضا للسيطرة الكاملة على مصرف الاستثمار البرتغالي BPI – كأنها غزو في سوق النمو.

استقلال كاتالونيا

ويراقب فايني بتعب العاصفة التي أثارتها حركة الاستقلال في كاتالونيا. فقد انحازت الحكومة الكاتالونية إلى جانب الحركة وتأمل كسب شرعية جديدة في انتخابات إقليمية مقررة في أيلول (سبتمبر).

هذه المسألة تعتبر إشكالية بالنسبة لمجموعة كايشا. في بقية إسبانيا، حيث تملك الجزء الأكبر من فروعها وعملائها، غالبا ما ينظر إليها على أنها “الذراع الاقتصادية للمجتمع الكاتالوني”، بحسب تعبير أحد الرؤساء التنفيذيين في مدريد. في كاتالونيا، معارضة فايني للاستقلال معروفة – وقد جعلت المصرف هدفا لانتقادات من نشطاء الاستقلال. مجموعة كايشا، التي تعتبر كاتالونية كثيرا بالنسبة للبعض، وغير كاتالونية بما فيه الكفاية لبعض آخر، تواجه عملا صعبا لتحقيق التوازن في الشهور المقبلة. ثم هناك مسألة ماذا يمكن أن يحدث في حال تمكنت كاتالونيا من تحقيق الاستقلال. ويعتقد محللون أن مجموعة كايشا سيكون عليها نقل مقرها القانوني لتبقى جزءا من الهيكل المالي في منطقة اليورو، والحفاظ على إمكانية الوصول إلى برامج السيولة التي يطلقها المصرف المركزي الأوروبي.

ويوضح فايني أنه يرى مسألة العملة على أنها حاسمة: “ليس لدي أي التزام سياسي في كاتالونيا باستثناء واحد – أن المدخرين الكاتالونيين لن يخسروا أموالهم. هذا هو الأمر الوحيد الذي يثير قلقي. إذن، عندما تعطيني أموالا بعملة اليورو لا أستطيع أن أعيد إليك شيئا آخر. هذا ما يجب أن أدافع عنه”.

ويصر رئيس مجلس الإدارة على أن مجموعة كايشا هي “مؤسسة خاصة”، وأن “المناقشات السياسية ليس لها تأثير في سبب وجودنا”. لكن هذا لم يمنعه من محاولة تعزيز الروابط بين المنطقة وبقية إسبانيا.

ويقول أحد المصرفيين في مدريد إن فايني “يرى نفسه جسرا بين كاتالونيا وإسبانيا”. إنه طموح معكوس، ولاسيما في سلسلة من الصفقات والمعاملات التي جعلت من مجموعة كايشا جزءا كبيرا لا يتجزأ من الاقتصاد الإسباني. سواء كان مجموعة أيرتيس، أو شركة الغاز الطبيعي، أو مصرف خدمات الأفراد نفسه – جميعها بذلت جهدا كبيرا للتوسع في بقية إسبانيا. ويقول المصرفي: “إنه يحاول أن يجعل المجموعة مكشوفة بقدر الإمكان في إسبانيا، وذلك لجعل الانفصال أكثر إيلاما، إضافة إلى الحصول على ضمان في حال كان هناك انفصال بالفعل”.

لو كان الأمر متروكا له، فإن فايني سيستمر في تحقيق التوازن المالي والصناعي والسياسي في مجموعة كايشا لأعوام عديدة مقبلة. لقد تجاوز أي سن رسمي للتقاعد، لكن ليس لديه نية للتوقف. “أنا سأعمل دائما. فكرة التقاعد هذه لا تنطبق على حالتي”.