“يا ريت بترجع… ما كان بيفرق معنا شي”. تنحصر رؤية خالد للحرب الأهلية بصورة الشاب الذي يحمل كلاشنكوف وعلبة سجائر، ولا يأبه لشيء، لا لتأمين منزل أو لقمة العيش. ورغم سطحية الرؤية، إلا ان نظرة إبن الـ 23 عاماً، لحرب أهلية لم يعشها، قد لا تكون خاطئة، أو بأسوء الأحوال، يمكن التفكير فيها.
خالد لم يعرف الحرب الأهلية سوى عبر الصور القديمة وحكايات الأهل. وفي سرد الحكايات، لم يمر على مسمعه تأفّف الراوي من الوضع الإقتصادي، أو من عدم توفر المال، بل جلّ ما كان يسمعه، هو إصابة شخص برصاص قنّاص، فيما كان يعبر المتاريس ليشتري ربطة خبز، والخبز كان متوفراً في معظم أوقات الحرب!
روايات المرحلة الممتدة من العام 1975 الى العام 1989 لا تحمل تفاصيل مأساة إقتصادية، تحديداً على مستوى “إقتصاد الأفراد”، بمعنى انّ الشباب في تلك المرحلة لم يشعروا بالضغوط الإقتصادية التي يشعر بها شباب اليوم، حتى بالنسبة للمتزوجين وأرباب العائلات، أما الخطر الأبرز يومها، فكان الخطر الأمني وليس الإقتصادي. حيث يرى محمود الهاشم (كان مقاتلاً في الحرب) ان السياسة المسيطرة أثناء الحرب هي “سياسة الموت بالنار وليس بالإقتصاد. فكانت الأموال موجودة حتى في عزّ الحصار الإسرائيلي الذي لا ينفصل عن سياق الحرب الأهلية. نعم كانت هناك صعوبات، لكنها صعوبات فرضها الوضع الأمني، ولم تكن صعوبات إقتصادية بحتة”. أمّا سبب توفر المال، فكان عبر “أموال منظمة التحرير التي كانت في البنوك وفي السوق اللبنانية، ومن مختلف الجهات التي كانت تضخ أموالاً للأحزاب”. وعن الأوضاع اليوم يقول محمود لـ “المدن”: “الحرب قاسية لكن ما نعيشه اليوم أصعب. اليوم نعيش أزمة إقتصادية لم نشهدها في فترة الحرب، فيومها كانت الحياة الاقتصادية شبه طبيعية، فداخل المنطقتين الشرقية والغربية كانت الحركة عادية، لكن اليوم الوضع العام سيء، والحرب أصبحت حرباً باردة مذهبياً وإقتصادياً”.
الطمأنينة الإقتصادية في تلك المرحلة كان يعكسها حال الشباب، فالغالبية العظمى منهم كانت “مرتاحة ولا يشغل بالها التفكير بالمستقبل، فالأموال متوفرة والقدرة الشرائية مرتفعة”، على حد تعبير حبيب عيسى الذي كان مقاتلاً شاباً في الحرب.
حال الإرتياح المادي لدى الشباب كانت تأتي عبر توفر المال وانخفاض الأسعار مقارنة مع أسعار اليوم. ولعلّ انخفاض الاسعار وارتفاع القدرة الشرائية، هما كلمة السر بالنسبة لإقتصاد الأفراد حينها، لأن المتطلبات ما زالت نفسها حتى يومنا هذا. وينفي عيسى في حديثٍ لـ “المدن” مقولة أن “المتطلبات اليوم اصبحت أكثر وهي التي اثرت على الاقتصاد”، فبرأيه أنّ “الشاب الذي يقبض 1000 دولار اليوم لا يكفيه راتبه ليصرف كما كنا نصرف نحن في فترة الحرب، مع ان المتطلبات بقيت كما هي”. ويضيف عيسى: “كنّا نقبض حوالي 25 ليرة يومية من الأعمال الحرّة، كنا نروح على المنارة ونشرب دخان (سجائر) وبيرة ونشتري اشياء كثيرة بـ 10 ليرات”.
بالتوازي مع البحبوحة التي ينعم بها الشباب، كانت مرحلة الحرب تحمل في طياتها صور الفساد السياسي، المستمر حتى اليوم، والمسؤول عن الأزمة التي نعيشها. ومن وجهة نظر الخبير الإقتصادي غالب أبو مصلح، فإن الوضع الإقتصادي في فترة الحرب كان سيئاً جداً. أما الأموال التي كانت متوفرة، فخطورتها، بحسب أبو مصلح، تكمن في انها “كانت لتمويل الحرب وليس الإنتاج”، ولولا وجود أموال الأحزاب المنتشرة في السوق، لكان الوضع إنكشف أكثر.
وبعرض بسيط للوضع القائم حينها، يشير أبو مصلح خلال حديث لـ”المدن”، إلى أنّ “انهيار الليرة كان واضحاً جداً، وتأثرت به العائلات، خصوصاً عائلات الموظفين. فالموظف الذي كان يتقاضى راتبه الشهري او تلقى تعويض نهاية خدمته بالليرة اللبنانية، وجد أن هذه الأموال تبخّرت، والليرة لم يعد لها قيمة”. ولا يوافق أبو مصلح على وجهة نظر الشباب حول اقتصاد الحرب، لأن الشباب “كانوا مقاتلين في الأحزاب، ولا يرون الوضع الاقتصادي العام، وكل ما كانوا يحتاجونه هو الأكل والشرب والسلاح، وهو أمر كانت توفره الأحزاب”.
ولإنهيار قيمة الليرة أسباب كثيرة، منها الإجراءات الإعتباطية التي كان يمارسها المسؤولون من دون مراعاة أدنى قواعد المالية العامة. وعلى سبيل المثال، يذكر أبو مصلح أنّ “رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميل فرض على البنك المركزي ضخ مبلغ 5 مليارات ليرة كتمويل للدولة، وبعدها هبط سعر النقد”. لكن الواقع السوداوي حينها كان يتخلله ثقب أبيض لناحية الدين العام، فالدين في فترة الحرب لم يتجاوز “الـ 1.7 مليار دولار، واخذ بالإرتفاع مع مجيء (الرئيس رفيق) الحريري الذي اعتمد سياسات انفاقية من داخل الموازنة وخارجها، واعتمد على الديون، وكان يعتبر ان وجود الدين ليس مشكلة طالما انه يساهم في اعمار البلاد. لكن ذلك لم يكن صحيحاً”. ويعتبر أبو مصلح ان “نهج الحريري ما زال قائماً، والدولة اليوم لا تقدّم اي خدمات تناسب حجم الإنفاق وحجم الديون المترتبة على لبنان بحجة المشاريع الانمائية، فما صُرف على تحسين الكهرباء والمياه منذ العام 1992، يفوق قيمة تأمين هاتين الخدمتين بمعدل 24 ساعة”. ويخلص أبو مصلح الى ان “الوضع القائم سيستمر لأن هناك طبقة من الأشخاص في الدولة تمارس فساداً أكبر من الفساد الذي كان قائماً في الحرب، وفي المقابل، لا وجود لأحزاب تحمل برنامجاً تغييرياً حقيقياً، فالأحزاب انهارت في الحرب وتحولت الى ميليشيات غير قادرة اليوم على تقديم الحلول”.
لا شيء يشي بعودة الوضع الإقتصادي الى ما كان عليه في الحرب. فعلى أقل تقدير، المشهد الطبقي تغيّر كلياً، فالفقراء ازدادوا فقراً اليوم، وقلّة من الأثرياء تحكم البلاد عبر شبكة مصارف وشركات كبرى. أما الحديث عن عودة الى ما قبل الـ 75، فهذا الحلم الأصعب بالنسبة الى جيل لم يعش الحرب الأهلية وما قبلها.
والصعوبة هذه تتحول الى دمعة وعيون تسرح بصورة معلقة على الحائط لـ “ساحة البرج” بالأبيض والأسود، لأنها تذكّر أبو ربيع، الرجل الستيني، بأيام “العصر الذهبي لبيروت، حينها كان ما حدا يسمع بالدولار، كانت الليرة اللبنانية تحكي كل اللغات، وكان كل شي متوفّر والناس ما تسأل عن المصاري”.