IMLebanon

صناعات الألبسة والجلديات والحرف أنهكتها الحرب

ShoesIndustry
باسكال صوما
كضحايا لا تحصَى ولا تعدّ، كان القطاع الصناعي واحداً من ضحايا الحرب الأهلية، فالعزّ الذي عرفته الصناعة اللبنانية قبل العام 1975، لاسيما الصناعات النسيجية والجلود، خفّ وهجه تدريجياً، مع اشتعال الجبهات الواحدة تلو الأخرى.
صناعيون قدماء التقتهم «السفير»، وعرفت من عيونهم المتحسّرة كم خسروا وكم خسرت الصناعة اللبنانية بسبب الحرب، وكم كان يمكن أن يكتسب هذا القطاع من أهمية عالمية اليوم، لو أنّ كل تلك الدماء لم تسقط.
وإذ تبقى تلك الأوجاع القديمة درساً عسى أن نتعلّم منه ذات يوم، يخبر سليم حكيم البالغ من العمر سبعين عاماً (صاحب مصنع للورقيات أقفل في الحرب) أن «حصة الصناعة في إجمالي الصادرات في لبنان بلغت نحو 40 في المئة في العام 1973 و62 في المئة في العام 1975، استحوذ العرب على 90 في المئة منها»، مضيفاً: «أما اليوم فالصادرات الصناعية لا تذكر، وتظهر بشكلٍ واضح كم خسرت الصناعة من زخم وقدرات خارقة».
وليس من قبيل الصدفة أن تكون الفترة التي شهدت ازدهار الصناعة اللبنانية أي قبل الحرب، هي الفترة نفسها التي شهدت تزايد الاستثمارات الأجنبية من خلال القطاع المصرفي الذي يشكّل مفتاح تمويل القطاعات الاقتصادية الأخرى. وهذه الفترة نفسها شهدت للمرّة الأولى في لبنان تأسيس بنوك التسليف المتوسط والطويل الأجل شارك فيها رأس المال الأجنبي بنسبة عالية لاسيما في صناعات المواد الكيماوية، الأسمدة، البلاستيك، الأدوية، الورق والكرتون، الصناعات الكهربائية، المصاعد، الألمنيوم، الجلود، الإسمنت، قضبان الحديد والأحذية وغيرها…
اتفاقيات تجارية
يُصفن نائب رئيس «جمعية الصناعيين اللبنانيين» زياد بكداش عند سؤاله عن تغيّر وجه الصناعة قبل الحرب وبعدها ثمّ يقول: «لا يمكن أن نرمي كل الثقل على أهوال الحرب، فما أضرّ الصناعة بشكلٍ أساسي هو ما رافق الحرب من اتفاقيات تجارية مع دول أخرى لم تصب في مصلحة لبنان، إضافةً إلى قرار رفع الرسوم الجمركية عن المستوردات في الثمانينيات، ما دمّر صناعات كثيرة وأنهى زمنها في غضون سنوات قليلة، وهذا الأمر مستمرّ حتى اليوم، وكأنّ أحداً لم يتعلّم، وكأنّ أحداً لا يشعر بمعاناة الصناعي الذي تحمّل ويلات الحرب والإهمال الحكومي للصناعة وبقي في لبنان ولم يهاجر كما فعل كثيرون».
ويرى بكداش أن «الضحية الكبيرة بين الصناعات التي تراجعت في الحرب وبعدها إضافةً الى القطاعات الحرفية، كان قطاع الألبسة والجلديات، الذي كان مزدهراً بشكلٍ كبير قبل العام 1975 وكان لبنان يصدّر الى الخارج، لكنّ الإهمال الرسمي الواضح المتمثّل برفع الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة مقابل عدم تقديم الدعم الكافي للمصانع، اضطر صناعيين كبار الى إقفال أبواب رزقهم أو استثمار قدراتهم في دولةٍ أخرى تقدّم على الأقلّ الحدّ الأدنى من الدعم والإعفاءات والتسهيلات».
في المقابل، يوضح بكداش أن «العالم الصناعيّ كله تغيّر، واليوم لبنان يصدّر أكثر من السابق، لكن مع فرق تفوّق الاستيراد بشكلٍ كبير على خلاف ما كان قبل الحرب الاهلية». ويضيف: «اليوم نحن نصدّر بـ3 مليارات دولار، ونستورد ما قيمته 20 مليار دولار، وبالتالي إنّ الفرق كبير جداً ولا يمكن عدم التوقف عنده نظراً لخطورته». ويلفت الانتباه الى أن اسباب ذلك «تعود بالدرجة الاولى الى دخول الصين بشكلٍ قويّ الى السوق الاقتصادي العالمي، إضافةً الى فتح الاسواق في لبنان امام البلدان الاخرى ان كان ضمن اتفاقات تجارية معينة أو لا»، مشيراً في الوقت نفسه الى «ضعف الثقافة لدى اللبنانيين حكومةً وشعباً». ويقول: «ما زال المثل القائل كل فرنجي برنجي هو الذي يحكم الاستهلاك، وهذا يُضعف الإنتاج المحلّي، مع العلم أن الصناعة اللبنانية تتمتّع بأفضل المعايير الدولية وتواكب التكنولوجيا والتطوّر العالمي»، مذكّراً بأنّه «قبل الحرب كان التصدير إلى أوروبا أمراً شبه مستحيل وكان التصدير يقتصر على الدول العربية، أما اليوم فالصناعة اللبنانية باتت تصل الى أقاصي الأرض، فيما اللبناني يفضّل المنتج الأجنبي على المنتج المحلي».
حربٌ مستمرة
في المقابل، يرى جميل مبارك (صاحب معمل للنسيج أقفل في الثمانينيات) أن «الحرب انتهت بالمبدأ، لكنّ الحقيقة المعاشة تثبت أن القطاعات الاقتصادية تعيش حروباً متنوّعة، والقطاع الصناعي عانى وما زال يعاني من ضعف الدعم والتسهيلات، إضافةً الى الوضع الأمني المتوتّر».
ويضيف: «في الواقع لبنان الذي كان منارة الشرق وكانت صناعته الأشعر، ترك الطليعة اليوم لدول عربية أخرى سبقته بكثير، فالأردن مثلاً الذي حجم اقتصاده كلبنان تقريباً، بات يصادر اليوم أكثر من ضعف حجم الصادرات اللبنانية».
الحرب التي استمرت من الـ1975 حتى أواخر الثمانينيات كانت في الواقع فترة العز الصناعي العالمي، ففي هذه السنوات القليلة شهد العالم تطوّراً تكنولوجياً وعلمياً كبيراً تمثّلت بالاختراعات ودخول آلات حديثة على الصناعة. بعد هذه الفترة كان على لبنان لملمة جراحه الكثيرة، قبل التفكير بمواكبة العصر، وكان على الصناعيين المحافظة على ما تركته الحرب من مصالحهم والدفاع قدر المستطاع عن أبواب رزقهم. وبالتالي يمكن القول، إنّ الصناعة اللبنانية لم تعطَ وقتاً ودعماً كافيين لمواكبة ما جرى في العالم يوم كانت لغة الدم وحدها المتكلّمة.
ويعلق بكداش على هذه النقطة قائلاً: «أُبرمَت اتفاقات تجارية ثنائية مع دول أخرى، كانت بمثابة الضربة القاضية لبعض الصناعات ولاسيما التي تحتاج الى طاقة مكثفة، لأن في هذه الاتفاقات ما ينص على انه لا يحق لأحد الطرفين ان يدعم صناعته وفي حال فعل ذلك يستطيع الطرف الثاني أن يضع رسوماً جمركية على هذه الصناعة لدى استيرادها». ويتابع: «إنما الحاصل اليوم، أنّ لبنان يلتزم بهذه الاتفاقات فلا يدعم الصناعة، فيما الصناعات الأجنبية تأتي مدعومةً من حيث تقديم الطاقة بأسعار مخفضة للصناعيين في بلدهم، وبالتالي هناك عدم تكافؤ على صعيد دعم الصناعات، وكانت صناعات تدوير الورق والبلاستيك الأكثر تضرراً من هذا الأمر، لذلك رأينا مصانع كثيرة تنتقل الى دول أخرى مثل السعودية ومصر للحصول على الدعم، ما رفع أرباحها بشكلٍ كبير».
وفي مقارنة صغيرة يقول بكداش: «اليوم لدينا 4000 مصنع، قبل الحرب كانت الصناعات الناشطة هي الفرش والثياب والجلديات والورقيات، أما اليوم فالصناعات الأبرز هي الصناعات الكيماوية والمواد الغذائية والمجوهرات وأيضاً الورقيات». ويختم: «نحن قادرون على تحقيق المعجزات في صناعتنا الوطنية، وقادرون على التصدير بمليارات الدولارات، إنما كل ما نحتاجه كصناعيين أمناً مستتباً ودولة تحمينا من المنافسة والمضاربة».