عدنان الحاج
الآثار الاقتصادية والاجتماعية للحرب الأهلية اللبنانية، التي نشبت في العام 1975، امتدت آثارها حتى اليوم على الرغم من محطات التحسن التي حصلت خلال فترات السلم وعودة الروح الى بعض القطاعات، التي عادت إلى التراجع بفعل حروب من نوع آخر، داخلية وانقسامات بين الطوائف وهروب الرساميل، مما انعكس ولا يزال ينعكس تراجعاً على النشاطات والقطاعات الاقتصادية التي تراجع بعضها وضرب بعضها الآخر، وتأثرت قطاعات أخرى بشكل اقل وعادت واستعادت دورها. الأهم من ذلك أن بيروت لم تعد المركز المالي والتعليمي الجامعي والمركز السياحي في المنطقة، وكانت المنافسة قوية من الدول بهجرة المؤسسات الانتاجية والصناعية لا سيما السياحية منها.
كان قطاع الخدمات المميز في لبنان، من كهرباء وبنى تحتية، من أبرز المعالم، حيث كان لبنان يبيع الكهرباء إلى سوريا حتى العام 1978 قبل تردي وضع الانتاج والتوزيع . وكانت المؤسسة تمد الخزينة بارباحها حتى العام المذكور، قبل أن تخسر وتكلف الدولة، منذ 1993 حتى اليوم، أكثر من 23 مليار دولار، بما فيها الفوائد والعجوزات المتراكمة .
انقسام المؤسسات
الحرب الأهلية الطويلة التي قسمت المؤسسات والادارات، وقطعت العلاقة بين مراكز العمل في المناطق الصناعية والاسواق المركزية، وبين تمركز اليد العاملة في المناطق المسماة غربية ( من بيروت والضواحي والمناطق التي كانت محرومة من الشمال الى الجنوب وهي كانت مصانع اليد العاملة). يومها لم يكن الغزو العمالي الآسيوي والعربي قد بدأ بشكله الكبير كما هو اليوم، ولم تكن اليد العاملة السورية موجودة سوى في قطاعي البناء والزراعة، وكان العدد بعشرات الآلاف، وهي كانت مكملة لليد العاملة اللبنانية .
الاجتياح الاسرائيلي
المحطة الأولى في الانهيار الاقتصادي والمالي كانت بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، ثم تدحرج الانهيار بشكل كبير مع خروج الثورة الفلسطينية من لبنان، حيث سحبت منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية أموالها من لبنان، وكانت تقدر بحوالي 4 مليارات دولار حسب تقديرات المتابعين للعمل المصرفي .
المحطة الثانية من معالم واسباب الانهيار المالي كان مع بداية العجز في سيطرة الدولة على مرافقها العامة، حيث خسرت الدولة مواردها في مرفأ بيروت، وعند البوابات حيث توقف التصدير الرسمي عبر فئات الصناعيين، وتحول إلى تجارة الميليشيات بوضع اليد، فتحول المرفأ إلى قوات الأمر الواقع وكذلك المطار والمعابر البرية.
الانهيار النقدي
المحطة الأكثر ثأتيراً كانت في اواسط الثمانينيات، حيث بدأ الانهيار النقدي، نتيجة شح احتياطات مصرف لبنان، واتمام عملية صفقات السلاح بدفع أكثر احتياطات البنك المركزي، حيث دفعت المبالغ، وبات مصرف لبنان عاجزاً عن الدفاع عن الليرة، التي تراجع سعرها من 4.8 ليرات للدولار في العام 1984 إلى 87 ليرة في العام 1987، ثم بدأت الأجور تتراجع تدريجياً وبسرعة قياسية حيث وصل الدولار بداية التسعينيات الى حوالي 2400 ليرة للدولار وتدنت القدرة الشرائية للأجور الى مستويات قياسية.
الاستدانة الداخلية
في العموم، إن هذه الامور تراكمت لتنعكس على ايرادات الدولة بشكل كبير، حيث انطلقت منذ بداية الثمانينيات عمليات الاستدانة من الداخل خصوصاً. في العام 1992 كانت الايرادات حوالي 1138 مليار ليرة والنفقات حوالي 2119 مليار ليرة، وكان العجز بحدود 1081 مليار ليرة. وتواصل العجز في السنوات اللاحقة ليرتفع إلى حوالي 1162 مليار ليرة في العام 1993 نتيجة ارتفاع وتيرة الانفاق بنسب أكبر من العائدات، ليصل في العام 2003 إلى حوالي 3928 مليار ليرة، بعدما ارتفعت النفقات العامة إلى حوالي 10592 مليار ليرة. المهم أن عجز الموازنة السنوي وصل، نتيجة تراكم الحروب المتواصلة، إلى ما بين 35 و38 في المئة، لا سيما خلال مرحلة تراجع اسعار العملة، والبدء بانطلاق ورشة اعمار ما دمرته الحرب.
تطور الدين العام
النقطة الأبرز في الأمر، أن الدين العام الاجمالي كان في العام 1992 يقارب حوالي 6.4 مليارات دولار، تطور مع نهاية العام 2003 إلى حوالي 33295 مليار ليرة في بداية العام 2003. ثم وصل نمو الدين العام إلى حوالي 66.7 مليار دولار اليوم نتيجة استمرار سياسات افتداء الخلافات السياسية بالمال العام، وانتشار محسوبيات السياسىة بدل محسوبيات الحروب وقوى الأمر الواقع .. المهم ان الدين العام إلى الناتج المحلي ارتفع من 69.6 في المئة بداية العام 1992 إلى حوالي 140 في المئة حالياً . مع الاشارة إلى أن نمو الناتج المحلي بداية التسعينيات حقق حوالي 4.58 في المئة سنوياً حتى العام 1998، حيث بدأ التراجع والانكماش بفعل تراجع العائدات وارتفاع وتيرة زيادة النفقات في مقابل تراجع الايرادات التي كانت تأتي بأقل من التقديرات المقرة في الموازنات العامة. أما دخل الفرد فقد تطور خلال الفترة من 2415 دولار إلى حوالي 4 آلاف دولار في بداية 2003، ثم ارتفع بحكم تصحيح الأجور وارتفاع التضخم خلال الفترة. وقد وصل حاليا إلى حوالي 10531 دولاراً.
تصفيات مبكرة للتعويضات
في الجانب الاجتماعي كانت أخطر ظاهرة واجهت تطورات الوضع الاجتماعي هي التصفيات المبكرة لتعويضات المضمونين في «الضمان الاجتماعي»، حيث وصلت حالات الترك المبكر نتيجة البطالة القسرية بفعل تقطع أوصال الوطن إلى حوالي 75 في المئة من تاركي العمل، والذين خسروا حوالي 50 في المئة من قيمة مستحقاتهم في التعويضات، نتيجة الصرف من العمل أو الترك المبكر قبل بلوغ سن التقاعد (64 سنة حالياً) أو قبل اتمام 20 سنة خدمة ليستفيد المضمون من كامل قيمة التعويض. وهكذا بقيت مبالغ بآلاف المليارات من الليرات مخزونة في الضمان الاجتماعي .
الاضرار الصناعية والتجارية والسياحية كانت كبيرة، وهي كلفت تدخل الدولة والمصارف في تمويل اعادة اعمار المشاريع. وتم انشاء المصرف الوطني للانماء الصناعي والسياحي لاقراض المؤسسات المتضررة بفوائد مقبولة، وجاء التضخم واكل قيمة القروض، فتوقف مصرف الانماء الذي كانت تملكه الدولة والضمان الاجتماعي نتيجة فروقات العملة، وانخفاض قيمة الديون بفعل تراجع الليرة. وهناك من دفع مستحقاته بمئات الدولارات وكانت قيمتها بملايين الليرات قبل الانهيار.
نمو حجم الاقتصاد
يجب عدم نسيان أمر بسيط وهو أن حجم الاقتصاد اللبناني تضاعف أكثر من 10 مرات بارتفاع الناتج المحلي من 6 مليارات دولار إلى حوالي 47.5 ملياراً اليوم، وهو أمر انعكس دوراً اكبر في قطاع الخدمات، الذي نشط على حساب تراجع القطاعات الانتاجية، نتيجة تزايد الهجرة من المناطق الزراعية إلى المدن. مع العلم أن الزراعة كانت تشكل حوالي 16 إلى 17 في المئة من الناتج وقد تراجعت إلى ما دون 8 في المئة بعد سنوات الحرب الطويلة والمستمرة.
القطاع المصرفي ينمو بين الحروب
أكثر القطاعات تحسناً وسط مصاعب الحروب المستمرة والاحداث، كان القطاع المصرفي الذي تضاعفت موجوداته مرات عدة، من الميزانية المجمعة إلى حجم الودائع والتسليفات. وهو لعب دوراً مزدوجاً في تمويل احتياجات الدولة والخزينة عندما تراجعت الإيرادات. ومول القطاعات الاقتصادية والفردية بحوالي 57 مليار دولار مقابل حوالي 37 مليار دولار ديون المصارف على الدولة. وهي تشكل حوالي 52 في المئة من اجمالي الدين العام. لقد اضطرت الدولة الى رفع الفوائد على الليرة خلال السنوات الصعبة لترغيب المصارف والجمهور والمؤسسات العامة بالاكتتاب في سندات الخزينة والعودة إلى استخدام الليرة، التي لم تعد عملة مقبولة ومتداولة في الاسواق العالمية، نتيجة مراحل وأحجام الخسائر التي تعرضت لها العملة الوطنية، في ظل آثار الحرب الأهلية ما تبعها من اجتياح اسرائيلي وجولات من الخلافات الداخلية افقدت العالم الثقة بالنقد الوطني، قبل أن تعود سياسة الاستقرار النقدي التي اتبعها مصرف لبنان بالتعاون مع القطاع المصرفي. من المصرف المركزي يمكن الانطلاق حيث كادت موجوداته الخارجية واحتياطاته بالعملات تنفد كلياً، وهي استوجبت العديد من التدابير التي مكنت مصرف لبنان من تكوين احتياطي بالعملات بإدخال المصارف في لعبة الهندسات المالية والمسؤولية، عن طريق فرض الاحتياطي الإلزامي بالليرة والدولار. فاصبح احتياطي مصرف لبنان اليوم أكثر من 57 مليار دولار، بعدما كان بضع مئات الملايين من الدولارات على مدار سنوات الحرب الداخلية .
ارتفاع موجودات المصارف
بالنسبة لموجودات القطاع المصرفي، فهي ارتفعت من حوالي 7.5 مليارات دولار بداية التسعينيات إلى حوالي 174 مليار دولار اليوم ، مع العلم ان القطاع المصرفي مر بمراحل صعبة خلال سنوات عدم الاستقرار النقدي، فتوقفت مصارف ودمجت أخرى بحوافز ومن دون حوافز تشجيعية من مصرف لبنان.
التسليفات تضخمت وزادت بشكل كبير وارتفعت من 2.7 مليار دولار إلى أكثر من 54 مليار دولار، نتيجة حوافز التسليف، وقد استفاد منها حتى اليوم حوالي 600 الف مقترض بقروض مدعومة وغير مدعومة الفوائد. وهي كانت في نهاية الاحداث والحروب الأهلية دون 7.9 مليارات دولار. أما الودائع فقد ارتفعت من 6.6 مليارات بداية التسعينيات إلى حوالي 143 مليار دولار اليوم. مع الإشارة إلى ان عدد المصارف اليوم يقترب من عدد المصارف في الايام الصعبة، وهو يقارب اليوم 71 مصرفاً بعد انتشار ظاهرة مصارف الاعمال والاستثمار وكذلك المصارف المتخصصة.