Site icon IMLebanon

الهجرة تفرّغ الاقتصاد من «المؤهّلين».. وتحمي النظام


وليد حسين
وسط قرقعة البنادق وهدير المدافع نزح مَن نزح من اللبنانيين إلى مناطق آمنة، وحزم آخرون أمتعتهم مفضّلين الهجرة. أما اليوم، في الذكرى الأربعين على انطلاق شرارة الحرب المدمّرة فيرى كثيرون أنّ إيجابيات تلك الهجرة القسرية كثيرة، ولاسيّما أنها جنّبت آلاف المواطنين الموت المحتّم. هذا إضافة إلى أنّ أموال المغتربين ساعدت آلاف العائلات اللبنانية. هذا صحيح. لكن تداعيات الهجرة أكثر من أن تُحصى.
يشدّد الباحثان بطرس لبكي وأنيس أبي فرح، في حديثهما إلى «السفير»، على أنّ الهجرة أدّت إلى خسارة لبنان فئات منتجة، وخسر «قيمة العمل المضافة» التي كان بإمكان المهاجرين منحها إلى الاقتصاد المحلي فيما لو سُنحت لهم فرصة البقاء على أرض الوطن في ظل مخطّط اقتصاديّ. يضيف لبكي أنّ «الهجرة أدّت إلى ارتهان اقتصاد البلد للخارج وأفقرت البلد وأفرغته من مواطنيه»، منتقداً المسؤولين السياسيّين الذين يتفاخرون بأهمية حمل المهاجرين «رسالة لبنان» إلى أصقاع الأرض، داعياً إلى «الكفّ عن التغنّي بحسنات الهجرة». فكيف كانت طبيعة تلك الهجرة وإلامَ أدّت، وما هي تداعيتها على الواقع الحالي؟
وليد حسين
لا إحصاء رسمياً شاملاً في شأن عدد المهاجرين اللبنانيين إبّان الحرب 1975ـ 1990. لكن هناك دراسات مبنيّة على إحصاءات عينيّة أو على جداول حركة المغادرين والعائدين لدى الأمن العام اللبناني. وتقدّر الأرقام المتداولة، وفق دراسة أبي فرح، عدد المهاجرين بنحو 729 الف مواطن بين 1975 ـ 1994، بينما تظهر دراسة لبكي التي وضعها مع الباحث خليل أبو رجيلي أن العدد بلغ نحو 900 الف مواطن.
وتبيّن دراسة لبكي أنّ عدد المهاجرين بلغ، في العام 1975، نحو 400 ألف مواطن، أي ما يوازي 15% من مجمل الشعب اللبناني. ثم انخفضت هذه النسبة بعد «حرب السنتين» (1975ـ 1976)، لكنها عادت لتشهد ارتفاعاً غير مسبوق بدءاً من العام 1984، بسبب تفاقم الوضع السياسي والأمني الذي ترافق مع موجات تهجير قسري في العديد من المناطق. واستمرت هذه الوتيرة بالتصاعد حتى بات عدد المهاجرين، في العام 1990، نحو 900 ألف مهاجر من أصل نحو مليونين وستمئة ألف نسمة عدد سكان لبنان التقريبي في تلك الأعوام.
اليد العاملة الاختصاصية
يتفق الباحثان لبكي وأبي فرح على أن الهجرة أدّت، على المستوى الاقتصادي، إلى تدهور الإنتاج والإنتاجية، نظراً إلى خسارة لبنان فئات منتجة ذات تأهيل مهني وجامعي. وخسر لبنان بين العامين 1975 و1977، وفق لبكي، ثلثي اليد العاملة الاختصاصية، إذ بلغ عدد المهاجرين من ذوي الاختصاصات المهنية نحو خمسين ألفاً من أصل خمسة وسبعين ألفاً.
أما المعلومات عن الهجرة، وفق القطاعات، فهي جزئية، إذ تشير دراسة لبكي إلى أن نسبة المهندسين المهاجرين بلغت نحو 15% في مطلع العام 1988. كذلك الأمر بالنسبة إلى الأطباء. وتشير مصادر «نقابة الأطباء في الشمال» إلى أنّ نحو 30% من الأطباء المنتسبين هاجروا حتى منتصف العام 1987.
وخسر الجسم التعليمي نحو ثلثي أعضائه حتى مطلع العام 1989، جراء الهجرة. وتُظهر دراسة ثانية (المغتربون اللبنانيون بين العامين 1975 و2001) لأبي فرح، أنّ عدد الجامعيين الذين هاجروا بين 1975 و2001، قد بلغت 273694 طالباً. وتلفت دراسة أبي فرح إلى أنّ كلفة إعداد الطالب في تلك المرحلة بلغت نحو مئة ألف دولار. ما يعني أن الكلفة التي تكبّدها لبنان لإعداد الطلاب بلغت نحو 30 مليار دولار تتوزّع بين تعويضات اجتماعية وتعليم وإعداد وصحة وتغذية وسكن ومدارس وخدمات عامة… ويوضح أبي فرح أنّ «المهاجر يرد جزءاً بسيطاً من كلفة الدولة والمجتمع في إعداده، عبر «بعض الأموال المرسلة من المغتربين لأقاربهم».
«ساهمت الهجرة، إضافة إلى النقص في المهن الحرّة، في ارتهان لبنان للخارج»، يقول لبكي. فعائدات الهجرة من التحويلات المالية كانت تشكّل نحو 18% من الدخل الوطني في العام 1970. أما في العام 1987 فقد أصبحت 66% منه. ما يعني خضوعاً كلياً للاقتصاد الوطني للخارج. وسحبت الهجرة منه الفئات المنتجة ما انعكس تدنّياً في الإنتاج المحلي، واستثمرت التحويلات المالية للمهاجرين في الاستيراد، ما أدى إلى تفكيك الاقتصاد الوطني الذي كان يعتبر إلى حد ما متكاملاً قبل الحرب لجهة الإنتاج والاستهلاك. يضيف لبكي أنّ معظم التحويلات المالية ذهبت نحو الاستهلاك، ولم تساهم في تحسين البنية الإنتاجية. يلتقي الباحثان لبكي وأبي فرح على أن سلبيات الهجرة لا تقارن بإيجابياتها البسيطة في الاقتصاد الوطني. وتتمحور، وفق لبكي، حول بعض التحويلات المالية التي ساهمت في تأسيس بعض المؤسسات الصغيرة والمتوسّطة والكبيرة والاستثمار في شراء الأراضي والبناء وفي تخفيف الهجرة من حدة البطالة في زمن الحرب. عدا عن استفادة لبنان من نقل المهاجرين العائدين التقنيات والمهارات الحديثة المكتسبة في الدول الصناعية، غير الموجودة محلياً.
أمّا على المستوى السياسي، فقد شكّلت الهجرة نوعاً من «صمّام أمان للنظام». يشير لبكي إلى أن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والبطالة شكّلت عامل تفجير للنظام، ساهمت الهجرة في تنفيسه وخففت الضغط عنه، ولاسيما هجرة المثقفين الذين كانوا يشكّلون عامل قلق وإزعاج لأركان النظام.
من ناحية ثانية، ساهم المهاجرون في تمويل الأحزاب اللبنانية، إذ نكاد لا نعثر على حزب واحد في لبنان غير مموّل من المهاجرين، كما لفت لبكي. زد على ذلك، رفد العديد من الأحزاب بقيادات تعلّمت في الخارج. لكن تداعيات هجرة الحرب ما زالت تلقي بظلالها على الواقع. يوضح لبكي أن جيل الحرب من المهاجرين شكّل نوعاً من نواة صلبة في دول الاغتراب سهّلت على بقية أفراد العائلة والمحيط عملية الهجرة اللاحقة، ما يعني أن لبنان تعرّض وما زال معرّضاً لنزف في فئاته الاختصاصية وفي سكّانه. ويلفت لبكي إلى خطورة ظاهرة الهجرة السنوية ما بعد الحـرب التي بلغـت ضعفي الهجرة التي تمّت بين 1975 و1990. وإذ يحذّر من مخاطرها الكبيرة على الاقتصاد والمجتمع، يوضح أن سبب تضاعفها هو سياسات الحكومات المتعاقبة منــــذ التسعينيات. فقد انصبّت الاهتمامات على تثبيت سعر صـرف الليرة اللبـــنانية من خـلال إصدار سندات خزينة بفوائد عالية جداً، ما تسبّب في رفع الفوائد على التسليف وخنق الإنتاج المحلّي. بالإضافة إلى عـــدم القيام بخطوات لتحـسين إنـــتاجية الصناعة والزراعة المعطوفة على خفض قيمة التعرفة الجمركية.