تُمثّل مدينة نيويورك المركز المالي للولايات المتحدة الأميركية ثم غدت مركزاً مالياً رئيسياً للعالم بعد أن «أزاحت» لندن عن الدور الذي لعبته في عهد الإمبراطورية الاستعمارية التي أشادتها بعد الثورة الصناعية الكبرى.
بهذا المعنى غدت نيويورك هي «عاصمة رأس المال»، كما جاء في عنوان الكتاب الذي يقدمّه «ستيفن جيف»، المؤرّخ الأميركي الحائز على الدكتوراه في التاريخ من جامعة هارفارد، والذي جعل من تاريخ مدينة نيويورك المالي أحد مراكز اهتمامه، و«جيسيكا لاوتن»، أحد مديري متحف مدينة نيويورك.
وفي هذا الكتاب تتم دراسة المسار الذي عرفته مدينة نيويورك من مدينة حديثة متواضعة إلى احتلال مكانة «المركز المالي » في الولايات المتحدة الأميركية ثم «أحد المراكز المالية العالمية بامتياز». وتتم دراسة هذا المسار من خلال العلاقة بين «المال» و «المؤسسات البنكية» و«القوّة»، وذلك خلال فترة 1784 ــ 2012 كما يشير العنوان الفرعي للكتاب.
ما يتم شرحه هو أنه وراء المرحلة الأولى من صعود الدور المالي لمدينة نيويورك زيادة النشاطات الزراعية في جنوب البلاد وخاصّة ازدهار زراعة التبغ ثم القطن. في تلك المرحلة أولت السلطات المسؤولة في نيويورك اهتمامها كي تصبح العقدة التجارية والمالية التي تمرّ عبرها العمليات المالية والتجارية مع العالم الخارجي وخاصّة مع بريطانيا، المركز الصناعي العالمي آنذاك.
ويربط المؤلّفان في تحليلاتهما بين تنامي «القوّة العالمية» للبنوك التي تضخّمت نشاطاتها واتسعت وبين تطوّر المدينة نفسها وتوسّعها. ويصلان إلى التأكيد أنه من الصعب جدا فهم آليات تطور المدينة بدون فهم المسار التطوّري لبنوكها. والإشارة أنه من الهام جدّا في هذا الإطار التعرّض لشرح العلاقة بين بنوك نيويورك وبين «السلطات السياسية والحكومية» التي تعاقبت على المدينة نفسها.
ويشرح المؤلفان أن عمل البنوك عرف منعطفا كبيرا مع صدور القانون الوطني الأميركي للعملات عام 1863، حيث كانت البنوك قبل ذلك تطبع عملاتها الخاصّة بها. تجدر الإشارة أن هذا الكتاب يحتوي على مجموعة من الرسوم التوضيحية. ومن بينها صور أوراق نقدية لبنوك تتمايز في تاريخ صدورها وفي التوقيعات التي تحملها وفي الرسوم التي تزيّنها.
بالتوازي مع هذا تتم دراسة السياسات التي اتبعتها بنوك نيويورك في مجال «منح القروض»؛ والدور الذي لعبته في أنشاء البنى الأساسية ــ التحتية.
وشرح أن تلك البنوك كانت قد لجأت إلى ممارسات مثل تلك التي كانت وراء انفجار الأزمة المالية العالمية لخريف عام 2008 انطلاقا من الولايات المتحدة. هكذا كانت قد «خاطرت كثيرا» في منح القروض دون ضمانات كافية و«فتحت بذلك شهيّة زبائنها».
والإشارة أنه إذا كانت البنوك الأميركية قد لجأت إلى سياسة الإقراض بدافع المضاربة على السكن قبل أزمة عام 2008، فإن بنوك نيويورك قامت عام 1857 بـ «المضاربة» في قطاع السكك الحديدية.
بالمقابل كانت مدينة نيويورك «رائدة» في مجال تأسيس «بنوك التوفير». بهذا المعني يتم التأكيد أن تلك البنوك ساهمت في «تعزيز العنصرية العنصرية والفقر». ومما يدل، حسب التحليلات المقدّمة، على الدور «الاجتماعي» الذي لعبته البنوك في المدينة.
إن معرض نيويورك الذي كان لمؤلفي الكتاب نشاط هام في إقامته هدفَ بالدرجة الأولى إلى تبيين أن البنوك قد خلقت دينامية اقتصادية، ولكن أيضا دينامية اجتماعية، أخذت في بعض الأحيان صيغة احتجاجات من قبل الأكثر فقرا في المدينة حيال ما مثّلته تلك البنوك من ثراء، ذلك إلى درجة أن بعض البنوك فكّرت جديّا بمغادرة المدينة.
هكذا كان المعرض، كما يتم توصيفه في الكتاب، نوعا من التأريخ لمدينة نيويورك نفسها والتأمّل بمستقبلها. ذلك ما دلّ عليه السؤال الذي وجده الزائرون أمامهم ومفاده: «هل سيكون بمقدور مدينة نيويورك أن تستمر في شغل مكانة عاصمة رأس المال العالمي؟».