ليونيل باربر وديفيد بيلينج وجميل أندرليني
الاقتصاد الصيني السريع أخذ ينمو بأبطأ وتيرة له منذ ربع قرن، ومن المتوقع له مزيد من البطء، ويشارك الحزب الشيوعي الحاكم في حملة تطهير كاسحة لمكافحة الفساد ويحاول قادة البلاد تنظيف عقود من التلوث الصناعي المنفلت من عقاله.
أثناء استقباله “فاينانشيال تايمز” في قاعة الشعب الكبرى في ميدان تيانانمين في بكين، يبدو ثاني أقوى رجل في الصين وكأنه يتقبل كل ذلك وكأنه المسار الطبيعي للأحداث.
لي كيكيانج هو المسؤول المباشر عن إدارة ما يعتبر الآن أكبر اقتصاد في العالم – على الأقل من ناحية القوة الشرائية – وقيادة جهود بكين للانتقال من أنموذج النمو السابق المدفوع بالاستثمار الذي يتغذى على الائتمان، إلى مستقبل أكثر استدامة.
في أول مقابلة له مع مؤسسة إعلامية غربية، كان لي مسترخيا واجتماعيا ومتمكنا من نفسه أثناء المقابلة خلال ساعة من الأسئلة والأجوبة في غرفة هونج كونج ضمن القاعة الكبرى، وهو مكان رمزي للغاية لاستقبال رئيس تحرير صحيفة بريطانية.
كانت رسالته الرئيسية للعالم تتمثل في التزام الصين المستمر بالنظام المالي العالمي الحالي، خاصة في أعقاب تحرك بكين لإنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.
في وقت متأخر من كانون الثاني (يناير)، لم يكن يبدو أن أي دولة غربية على استعداد للانضمام لمؤسسة تطرح مثل هذا التحدي الواضح لنظام عالمي معمول به، تهيمن عليه الولايات المتحدة. لكن منذ ذلك الحين، وقّع معظم حلفاء أمريكا للاشتراك في البنك، في مثال صارخ على كيفية تحول مركز السلطة الجيوسياسية إلى الشرق.
وأدى قرار المملكة المتحدة في الشهر الماضي الانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار، على الرغم من احتجاجات من واشنطن، إلى تدافع حلفاء أوروبيين وغربيين آخرين، ما ترك الولايات المتحدة عاجزة ومعزولة. وحتى كبار المسؤولين الأمريكيين وصفوا هذه الحادثة بأنها انتصار دبلوماسي مذهل لبكين.
لكن طوال المقابلة، امتنع لي عن الشماتة وأصر مرارا وتكرارا على أن الصين ليس لديها الرغبة في خلق نظام عالمي جديد.
وقال “إن الصين ترغب في العمل مع الآخرين للحفاظ على النظام المالي العالمي القائم، وما يقصد من البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية هو أن يكون تكملة للنظام المالي الدولي الحالي”.
ورحب صراحة بطلب بريطانيا الانضمام إلى البنك وأكد أن البنك الآسيوي وبنك التنمية الآسيوي، الذي تهيمن عليه اليابان والولايات المتحدة، يمكن أن “يعملا بشكل متواز في تعزيز التنمية الآسيوية”.
مقاومة المضادات الحيوية
وكانت الصين تشتكي في بعض الأحيان من أن النظام الدولي الليبرالي الذي أنشئ بعد الحرب من قبل مؤسسات بريتون وودز – صندوق النقد الدولي والبنك الدولي – كان الهدف منه هو احتواؤها واحتواء الدول الشيوعية الأخرى. وجادل بعض الأكاديميين والمسؤولين الصينيين بأن النظام عفا عليه الزمن ويحتاج إلى استبدال.
وفي إجابة عن سؤال محدد عما إذا كانت الصين تريد أن تحل محل مؤسسات بريتون وودز، كان جواب لي قاطعا “لا يوجد شيء اسمه تحطيم النظام القائم”.
وأضاف “اكتسبنا خبرة متقدمة من العمل مع البنك الدولي وغيره من المؤسسات وعضويتنا في (منظمة التجارة العالمية) ساعدت أيضا الشركات الصينية على اكتساب المعرفة العميقة حول الكيفية التي يمكن بها أن تتنافس مع الآخرين في إطار القواعد الدولية. لذلك كانت الصين أحد المستفيدين من النظام الدولي الحالي من حيث السلام والتنمية على حد سواء”.
حتى إن لي أعرب عن حماس حذر لاتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي مبادرة تجارية تقودها الولايات المتحدة في آسيا ينظر إليها كثيرون باعتبارها “العضوية لكل من يريد باستثناء الصين” لأنها تستثني بشكل مقصود أكبر تاجر بضائع في العالم.
الزعماء الصينيون يفضلون استخدام الاستعارات في خطبهم، وكان لي أكثر غنائية في شرح مخاوفه بشأن التسهيل الكمي وخطة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لإنهاء السياسة النقدية غير التقليدية.
وقال “من السهل جدا على الشخص إدخال سياسة التسهيل الكمي، كونها أمرا أكثر قليلا من طبع النقود”. وتابع “عندما يتم تطبيق التسهيل الكمي، ربما تجد أن كل أنواع اللاعبين استطاعوا البقاء واقفين على أقدامهم في هذا المحيط الكبير. ومع ذلك، من الصعب التنبؤ الآن بما يمكن أن ينتج عن ذلك عندما يتم سحب التسهيل الكمي”.وحذر من أن معظم البلدان لم يطبق بعد الإصلاحات الهيكلية اللازمة لمعالجة الأسباب الجذرية للأزمة المالية العالمية، وقارن الاقتصاد العالمي بالمريض الذي يعيش على “المغذيات في الوريد والمضادات الحيوية” التي لم تسمح له بتعزيز نظام المناعة لديه لاستعادة وعيه من تلقاء نفسه.
لقاء فوق العادة
وعلى عكس عديد من المقابلات مع كبار القادة الصينيين، كان هذا لقاء مرتجلا ولم يكن قد تم تقديم أسئلة “فاينانشيال تايمز” لرئيس الوزراء أو موظفيه مسبقا.
وعلى الرغم من أن جوهر الاجتماع كان يهدف في البداية إلى أن يكون غير رسمي وغير مخصص للنشر، وافق لي لاحقا على أن تنشر “فاينانشيال تايمز” المقابلة بأكملها دون أي تغيير في تصريحاته – يعتبر ذلك أيضا غير عادي في السياق الصيني.
سلوك لي المسترخي يتناقض مع المكان المزخرف والمهيب والحضور الذين يتصرفون حسب الأصول ويقدمون المناشف الساخنة والمشروبات الغازية وكميات وفيرة من الشاي.
لي، البالغ من العمر 59 عاما، هو نجل مسؤول حزبي منخفض المستوى من ريف محافظة أنهوي، أمضى أربع سنوات يكدح على الأرض في نهاية الثورة الثقافية 1966-1976 قبل أن يتم قبوله للدراسة في عام 1978 في كلية الحقوق في جامعة بكين التي كان قد أعيد افتتاحها قبل ذلك بقليل.
زمن دراسته في أكثر جامعة مرموقة في الصين تزامن مع النسخة الصينية للانفتاح، وهي فترة غير عادية من الانفتاح على أفكار سياسية غربية محظورة منذ فترة طويلة. وجنبا إلى جنب مع غيره من الطلاب ساعد على ترجمة كتاب “الإجراءات القانونية الواجبة” من تأليف القاضي البريطاني الكبير الراحل اللورد دينينج. وزملاؤه في الدراسة من ذلك الوقت يقولون إنه كان متأثرا بالأساتذة الليبراليين، الذين يعتقد بعضهم بقوة في الديمقراطية الدستورية.
في عام 1998 أصبح أصغر حاكم في الصين، عندما عُيِّن لإدارة محافظة هينان الفقيرة. وكانت إدارته هناك قد شابتها فضيحة تمثلت في إصابة عشرات الآلاف من الفلاحين بفيروس نقص المناعة المكتسبة بسبب برنامج حكومي رسمي للتبرع بالدم.
لي، الذي ينظر إليه على أنه ربيب للرئيس السابق، هو جينتاو، اعتبره كثيرون خليفته الأكثر احتمالا حتى عام 2007، عندما أصبح واضحا أن تشي جينبينج سيتولى هذا الدور. ومنذ توليه منصب رئيس الوزراء في أوائل عام 2013، كانت أولويات لي هي خفض حجم وقوة البيروقراطية التي يصعب السيطرة عليها في البلاد، إضافة إلى دفع توسع حضري أكثر استدامة، وإصلاحات في المالية، وإعلان “الحرب على التلوث”.
مخاوف النمو
بعض المطلعين السياسيين في الصين أشاروا إلى أن منصب رئيس الوزراء طغى عليه تعزيز السلطة التابعة للرئيس تشي منذ أن تولى هو ولي أدوارهما الحالية.
لكن حول الاقتصاد على وجه الخصوص، وهي منطقة اتخذ فيها رئيس الوزراء بشكل تقليدي زمام المبادرة، أعرب لي عن ثقته وأعطى انطباعا بأنه كان مسؤولا عن سياسة الحكومة في وقت يتزايد فيه القلق بشأن التباطؤ.
وسجلت الصين نموا بنسبة 7.4 في المائة في العام الماضي، وهي أبطأ وتيرة منذ 24 عاما. لكن بيانات حكومية صدرت الجمعة أظهرت أن النمو انخفض إلى 7 في المائة في الربع الأول، مقارنة بالفترة نفسها العام الماضي، وهو أدنى نمو ربع سنوي منذ أعماق الأزمة المالية العالمية، وأقل من 7.3 في المائة في الربع الأخير من العام الماضي.
وكانت معظم الأرقام الاقتصادية الأخرى ضعيفة بشكل مستغرب في آذار (مارس)، ما يرجح استمرار التباطؤ.
وفي مناسبة قبل أسبوعين، تحدث لي عن الأرقام التي صدرت الجمعة، واعترف بالصعوبة التي تواجه حكومته في الحفاظ على فرص العمل وتحقيق النمو المستهدف هذا العام، الذي يبلغ “نحو 7 في المائة”.
وقال “صحيح أن اقتصادنا لا يزال معرضا للضغط النازل. لن يكون من السهل تحقيق نسبة نمو بمعدل 7 في المائة مرة أخرى هذا العام”.
لكنه يصر على أن بكين لديها المال الكافي لتحقيق هدفها في الوقت الذي تحافظ فيه أيضا على “عمالة كافية إلى حد ما، وزيادة في دخل الأسر، وتحسن في البيئة”.
وتابع “لدينا القدرة على إبقاء العملية الاقتصادية ضمن النطاق المناسب. منذ الربع الأخير من العام الماضي، أجرينا تعديلات مضبوطة لسياساتنا النقدية والمالية العامة، لكن تلك التعديلات ليست تسهيلا كميا، بل خطوات تنظيمية مستهدفة وقد آتت أكلها”.
وفي نهاية شباط (فبراير) خفضت الصين أسعار الفائدة للمرة الثانية خلال ثلاثة أشهر وأعلنت أيضا خططا لإصلاح مالية الحكومات المحلية وتعزيز الاستثمار في البنية التحتية في أجزاء من الدولة كان فيها تباطؤ النمو كبيرا.
وقال بعض الاقتصاديين والأكاديميين الصينيين الذين يقدمون المشورة للحكومة “إنهم يعتقدون أن القيادة تشعر بالقلق حيال معدلات النمو الهابطة على نحو يفوق ما تعترف به علنا”.
القطاع العقاري
يعتقد كثيرون أن الخطر الأكبر الذي يهدد النمو هو تعثر القطاع العقاري في الدولة، حيث هبطت الأسعار وأحجام المبيعات خلال العام الماضي، لكن الوضع يمكن أن يسوء بشكل أكبر.
وكانت الطفرة الهائلة في الممتلكات، ولا سيما في مشاريع الإسكان، هي المحرك الرئيسي للنمو في الصين لعقد من الزمن إلى أن واجهت المشكلات في العام الماضي.
ويعترف لي بأن الانكماش الذي أصاب القطاع العقاري – انخفضت مبيعات المساكن بنسبة 7.6 في المائة العام الماضي حتى مع استمرار الاستثمارات الإجمالية في هذا القطاع في الزيادة بنسبة 10.5 في المائة – يعد مجالا مثيرا للقلق بشكل خاص.
“نحن نريد أن نحصل على نمو مطرد سليم لسوق العقارات. ستستمر الحكومة في تشجيع عمليات شراء البيوت للاستخدام الشخصي، أو لتحسين الظروف المعيشية وستحترس من حدوث فقاعات عقارية. قد يكون هناك بعض التضارب في المصالح بين هذه الأهداف. نحن بحاجة إلى تحقيق توازن مناسب بين الأهداف المتعددة وممارسة التنظيم السليم. هذا لن يكون سهلا، لكننا نؤمن بأن بإمكاننا فعل ذلك”.
وبدا لي أكثر ثقة بالنفس عندما فوجئ بسؤال حول تراجع الأسعار في الصين، إذ تقلصت أسعار البيع عند بوابات المصانع على مدى 37 شهرا متتالية، مسجلة الفترة الأطول في السجلات.
أجاب “هبوط أسعار السلع الأساسية العالمية عرَّض مؤشرنا لأسعار المنتجين لمزيد من الضغوط. لذلك، بمعنى من المعاني، نحن الآن عند الطرف المتلقي للانكماش، لكن هذا لا يعني أن هناك انكماشا في الصين”.
وارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة 1.4 في المائة في آذار (مارس) عما كانت عليه قبل عام، وهي بذلك تكون أقل بكثير من الهدف المعلن للحكومة لهذا العام الذي يبلغ “نحو 3 في المائة” لكنها لا تزال في نطاق إيجابي.
ولأن كلا من اليابان وأوروبا منخرطة في سياسات نقدية غير تقليدية تهدف جزئيا إلى تخفيض قيمة عملتيهما، يتساءل كثير من المستثمرين العالميين عما إذا كانت الصين تميل إلى تخفيض قيمة عملتها الخاضعة ليسطرة قوية، ولا سيما إذا تباطأ النمو أكثر مما هو متوقع.
تاريخيا، قاومت بكين إغراء الدخول في عملية التخفيض التنافسي لقيمة العملة، خصوصا خلال فترة الأزمة المالية الآسيوية في 1998/1997. ويحمل لي رأيا مشابها لآراء أسلافه، رغم أنه لا يستبعد بشكل قاطع إمكانية أن تعمل الصين على تخفيض قيمة الرينمبي.
وقال “نحن لا نريد أن نشهد تخفيضا أكبر في قيمة العملة الصينية، لأنه لا يمكننا الاعتماد على تخفيض قيمة عملتنا من أجل تعزيز الصادرات. نحن لا نريد أن نشهد سيناريو تتعثر فيه الاقتصادات الرئيسية فوق بعضها بعضا لتخفيض قيمة عملاتها. هذا يؤدي إلى نشوب حرب عملات. وإذا كانت الصين ترى أنه لزاما عليها تقليل قيمة الرينمبي في هذا العملية، لا نعتقد أن هذا سيكون أمرا جيدا بالنسبة للنظام المالي العالمي”.
اقتلاع الفساد
دخل لي في مواضيع تراوح بين العلاقات مع اليابان إلى حملة مكافحة الفساد في الصين، التي كان يقود معظمها الرئيس تشي، التي قال عنها لي إنها “تزداد شدة”.
وأضاف “نريد التأكد من أن سلطة الحكومة تمارس مع ضبط النفس. الحكومة ستكون في مستوى مسؤولياتها الواجبة عليها من أجل رفع حيوية السوق وتقليل المجال أمام سلوك البحث عن الاستفادة على حساب الغير واقتلاع جذور الفساد”.
ووفقا للأرقام العامة، تم التحقيق خلال العامين الماضيين مع مئات الآلاف من المسؤولين للاشتباه في وجود فساد، أو إخلال بنظام الحزب الشيوعي.
وبخصوص العلاقات مع اليابان، تمسك لي بموقف الحزب الرسمي المتمثل في الحاجة إلى أن تواجه طوكيو الفظائع المرتكبة خلال فترة احتلالها الصين قبل الحرب العالمية الثانية وأثنائها.
وقال “العلاقات الصينية اليابانية الحالية لا تزال في بقعة صعبة للغاية. هنالك رغبة من كلا الجانبين لتحسينها، لكن مثل هذا التحسن يحتاج إلى أساس. جوهر القضية هو كيفية عرض تاريخ الحرب العالمية الثانية وما إذا كان يمكنهم استخلاص الدروس من هذا الجزء من التاريخ للتأكد من أن الحرب لن تتكرر أبدا”.
وفي حين يصر لي على أن الصين لا تسعى إلى تحدي النظام العالمي القائم، إلا أنه واضح أيضا بخصوص أن التغييرات ضرورية لاستيعاب ظهورها وظهور الدول النامية الأخرى.
وقال “نحن على استعداد للاستمرار في لعب دورنا في بناء النظام المالي العالمي الحالي. نحن مستعدون أيضا للعمل مع الدول الأخرى للمساعدة على جعل النظام أكثر عدلا وتوازنا وعقلانية”.
في هذا السياق، تحركات الصين نحو تأسيس البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وغيره من المؤسسات ربما ينظر إليها بشكل أفضل باعتبارها وسيلة للمساومة والنفوذ بحيث تستطيع بكين أن تستخدمها لدفع إصلاحات أسرع، وليس بدائل، أو تحديات للنظام العالمي القائم.
إن مهمة لي تكمن في جعل صوت الصين على المسرح العالمي متناسبا مع مكانتها المتزايدة، وفي الوقت نفسه التأكد من أن الاقتصاد المحلي لا يخرج عن مساره. أما مدى نجاحه في ذلك فلن يكون معروفا إلا بعد أن يتقاعد. إن الحكم على الموضوع الأخير سيكون من المؤكد ضمن فترة ولايته الخمسية الأولى التي تنتهي في عام 2018.