إنها المرة الأولى التي تنطلق فيها اجتماعات «ربيع» صندوق النقد والبنك الدوليين في واشنطن، فيما تبدو الصين وقد بدأت بإدخال المؤسستين العالميتين مرحلة «خريف» النفوذ المُطلَق بإدارتها محرّك «قطار الشرق إكسبرس» المتمثل بـ «البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية» (AIIB) ودعوتها «الجميع» إلى ركوب متنه.
بالرغم من أن البنك الآسيوي يتخذ صفةً إقليميةً لا عالمية، إلا أن دائرة نشاطه على الخارطة العالمية ستتركّز، بطبيعة الحال، في «البُقع» الأكثر فقراً وحاجةً، لا سيما في آسيا وأفريقيا، وهي الدائرة عينها التي أكثر ما ينشط فيها تنموياً صندوق النقد (IMF) والبنك الدوليين (WB).
صراع النفوذ المُنتظر بأدوات تمويلية وتنموية، على أهميته، لم يُدرَج كبند واضح على أجندة الاجتماعات في قاعات واشنطن، بالرغم من الصخب المصاحب لانطلاق البنك الآسيوي في الأروقة السياسية والديبلوماسية منذ أسابيع، ومقاطعة الولايات المتحدة واليابان علناً له.
مقاطعة «منطقية»!
هذه المقاطعة ليست مستهجنة من وجهة نظر واشنطن. قبل بضعة أعوام، أزاحت الصين اليابان من مرتبة ثاني اقتصادات العالم، لتزاحم اليوم على الصدارة الولايات المتحدة، التي تحتلها منذ أزاحت أميركا بريطانيا من المرتبة الأولى عام 1872، ولتتفوق بكين اليوم على واشنطن فعلاً ببعض المؤشرات الفرعية المرتبطة أساساً بالقوة الشرائية، ضمن نظرية «التعادل» التي يتبنّاها صندوق النقد نفسه والتي تقوم على مفهوم مفاده أن سعر الصرف الحقيقي بين عملتي بلدين سوف يميل إلى التبدّل دوماً مع كل تغيّر في القوّة الشرائية لكل منهما.
إنه صراع «القوة الناعمة» الذي تكسبه الصين على نحو لافت من دون حروب عسكرية تقليدية، بتركيزها على الإنتاج والتصدير واحتلال الأسواق التجارية والاستهلاكية ومنافسة عمالقة شركات الدول الصناعية داخل بلدانها، حتى بات يجوز القول إن شعار «صُنع في الصين» أضحى بمثابة قدَر الأغلبية الساحقة من المستهلكين حول العالم. «التنّين» صنّع اليوم «سلاحاً تنموياً فتاكاً» في خدمة التوسّع الصيني العالمي، بما يتّسم بها من قدرة على الاستجابة بعشرات مليارات الدولارات لحاجات تمويلية مُلحّة في زمن قحط السيولة النقدية.
معظم الدول الصناعية، المجتمعة هذه الأيام مع تلك الناشئة والفقيرة تحت مظلة المؤسستين الدوليتين في واشنطن، لم تجد بُدّاً من التعامل بواقعية مع الخطوة الصينية باتجاه تأسيس البنك الآسيوي، وإن اكتسى انضمامها ثوب «التكامل» و»التعاون»، حتى أضحت المؤسسة الوليدة تضم 57 بلداً عضواً مؤسساً، بينها دول يشوب التوتّر الشديد علاقتها بالصين (مثل النروج)، و4 من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، و14 من بلدان الاتحاد الأوروبي الـ28، و21 من أعضاء منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، بينما رُفِضَ طلب انضمام تايوان لأن بكين تعتبر الجزيرة جُزءاً منها.
على كل حال، لن ينحصر عدد أعضاء البنك بهذا العدد، وهو مرشح للازدياد بالتأكيد لأنه سيواصل قبول الطلبات الجديدة مستقبلاً، ومن المقرر أن يعقد المؤسسون اجتماعين تحضيريين في بكين وسنغافورة، للتوقيع على مواد الاتفاق الخاص بهذه المؤسسة أواخر حزيران المقبل، على أن يختار الأعضاء أول رئيس له ويعيّن مديرين تنفيذيين كبار بطريقة تقول بكين إنها ستكون «مفتوحة وشفافة«.
وفي النتيجة، ربما لم يكن البنك الصيني ليلقى هذا التجاوب الواسع النطاق لولا تعثر الدول المساهمة فيهما، ولو طبّقت المؤسستان الخطوات الإصلاحية الداخلية المطلوبة، لا سيما من ذلك عدم تنفيذ صندوق النقد الإصلاحات المُتفق عليها، وهو فشل كان موضع شجب من الدول الناشئة ضمن مجموعة الـ24، التي ندّدت مباشرة بعدم تحرك الولايات المتحدة باتجاه إصلاح الصندوق، لا سيما تعديل نظام الحصص والحوكمة، الذي سبق وأُقر عام 2010، ولا يزال عالقاً في الكونغرس الأميركي، الذي يرفض المصادقة عليه، مع مطالبة الدول الناشئة بضرورة فصل إصلاح الحصص عن إصلاح مجلس إدارة الصندوق، علماً أن الأخير هو الجزء الذي يتطلب موافقة الكونغرس.
أجندة «الربيع»
بعيداً من أجواء التنافس التي سيمليها على المجتمعين «السلاح التنموي» الصيني الجديد، تحتل أولويات مناقشات اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين، جملة من العناوين، التي من المتوقع أن تتركز على الارتفاع الحاد للدولار أمام اليورو والين، وسط تباين في المواقف حيال هذا التطور؛ فيما يعتبر صندوق النقد أن التغيير الحاصل في أسواق القطع مفيد عموماً لأنه يدعم اقتصاد اليابان وبعض الدول التي تواجه مشكلات في منطقة اليورو، تحذر وزارة الخزانة الأميركية أوروبا من التعويل كثيراً على تراجع اليورو لدعم الصادرات.
ومن العناوين الاُخرى على طاولة المجتمعين نتائج تدهور أسعار النفط، وأزمة المديونية اليونانية والإصلاحات المطلوبة من حكومة أثينا اليسارية، مع استمرار تداول إمكانية خروجها من منطقة اليورو، إضافة إلى تكاليف احتواء وباء ايبولا وتبعات تفشّيه على البلدان الموبوءة، فضلاً عن العنوان الدائم «الفضفاض» وهو إنعاش النمو العالمي.
الاجتماعات افتتحتها الخميس الفائت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستين لاغارد ورئيس البنك الدولي جيم يونغ كيم، فيما لا يزال الاقتصاد العالمي يجد صعوبة هائلة في الخروج من أزمة 2008 الاقتصادية والمالية.
ولعل هذاالواقع المُحبط هو ما دفع بالصندوق إلى تخفيض سقف طروحاته من الإنعاش، بما يعنيه من عودة الحيوية إلى الحِراك الاقتصادي العالمي، إلى اعتماد مفهوم أكثر واقعية يقوم على «النمو الممكن« القائم على تحديد ما يُمكن تحقيقه باستخدام عوامل الإنتاج بكامل طاقتها.