نجوين كاو كى ديوين تعتبر نجمة في فيتنام التي تحكمها الشيوعية، لكنها كانت ذات مرة لاجئة خارج البلاد. المضيفة المشاركة التي تقدم البرنامج الذي يعرض منذ فترة طويلة “باريس ليلا” ـ برنامج منوعات مخصص للفيتناميين المغتربين الذين يشعرون بالحنين إلى الوطن في فرنسا والولايات المتحدة، لكنه أيضا برنامج شعبي داخل البلاد ـ سبق لها أن فرت من سايجون وهي فتاة قبل سقوط المدينة قبل نحو 40 عاما. كانت عائلتها مستضعفة من الناحية السياسية أكثر من معظم العائلات الأخرى، في الوقت الذي كان يستعد فيه الجيش الفيتنامي الشمالي لإسقاط حكومة الجنوب ومسانديها الأمريكيين. فقد كان والدها، نجوين كاو كى، طيارا مقاتلا ورئيس وزراء سابق لفيتنام الجنوبية، هرب بطائرة هليكوبتر إلى سفينة حربية أمريكية. واستغرق الأمر منه نحو 30 عاما للعودة – واحتاج إلى فترة أطول من ذلك لإقناع ابنته بالانضمام إليه.
في مقابلة في مطعم يقع على شريط بالقرب من نهر سايجون، تعود كاي ديوين بذاكرتها إلى زمن سابق وتقول “قال لي، يجب أن تعودي إلى فيتنام. هنا يوجد المستقبل، لأن فيتنام بلد في طور النمو. لكني لم أكن أعرف كيف أبدأ. لم يكن لدي أي أصدقاء. لم يكن لدي أي شخص هنا”.
وفي الوقت الذي تستعد فيه فيتنام لإحياء مناسبة الذكرى الـ 40 لجمع وتوحيد شطري البلاد في 30 نيسان (أبريل) 1975، تعتبر كاي ديوين نفسها من بين “أطفال الحرب” العائدين الذين تحمل قصصهم مرآة تعكس صورة ما تغير – وما لم يتغير – في البلاد. يخوض العائدون، وفي بعض الحالات أبناؤهم وبناتهم، تجارب متقلبة في بلد من بلدان “أسواق التخوم” يضم 90 مليون نسمة، أكثر من 60 في المائة منهم ولدوا بعد نهاية الحرب الفيتنامية، ويناضل حكامه الشيوعيون لاستعادة حالة من الإثارة أحاطت ذات مرة هذا الاقتصاد الناشئ. وتبين قصصهم ما يمكن أن يحدث في بلد استبدادي عندما يشعر الذين عاشوا في الشتات وكانوا ذات مرة خائفين من الحرب والاضطهاد والفقر، بالثقة للعودة بأفكار جديدة – وشهية لكسب المال.
يقول سينج فان تران، صاحب مشاريع في التكنولوجيا عاش في المملكة المتحدة لأكثر من 30 عاما بعد الهرب من دلتا نهر ميكونج “قبل أن آتي إلى هنا قيل لي سيتم منعك (من تأسيس أي أعمال تجارية) من قبل الحكومة، لكن الواقع بمجرد أن تعرف الحكومة أنك أتيت إلى هنا للقيام بأعمال تجارية، تتركك وشأنك”.
الاحتفالات هذا الشهر ستكون تذكرة مؤثرة لكثير من العائدين بسبب مغادرة عائلاتهم. ويشمل البرنامج حفلا في 30 نيسان (أبريل) بمناسبة “تحرير مدينة هوشي منه”، اسم سايجون الذي كان قد تم تغييره تكريما لمؤسس الحزب الشيوعي الفيتنامي وبعبع واشنطن. لكن، في إشارة إلى الأوقات المتغيرة، يجري الترويج لدور ما بعد الحرب الذي سيقوم به الشتات الذين عادوا إلى البلاد بسبب “سياسات مواتية”.
هرب جماعي
ترك مئات الآلاف من الأشخاص فيتنام في هجرة كبيرة في نهاية الحرب وخلال سنوات انتقام ما بعد الصراع. قليلون أولئك الذين كانوا من ذوي الحسب والنسب الذين نقلوا جوا بمساعدة الولايات المتحدة، في حين تم إجلاء آلاف من الأطفال غير المصحوبين بذويهم في الطائرات الأمريكية في “عملية أطفال تركوا”. توفي لاجئون آخرون في عرض البحر، وفي جزء من موجة “لاجئي القوارب” الهاربين من فيتنام ومن الإبادة الجماعية للخمير الحمر في كمبوديا، الذين أصبحت محنتهم رمزا للرعب في أواخر السبعينيات. أولئك الذين نجوا تم توطينهم في جميع أنحاء العالم، ما أدى إلى وجود أكثر من 1.5 مليون مقيم من أصل فيتنامي في الولايات المتحدة وحدها.
من الصعب العثور على بيانات موثوقة لعدد الفيتناميين المغتربين الذين عادوا إلى بلادهم، لكن كثيرا من الأشخاص داخل وخارج الحكومة يقولون إن مزيدا منهم يغامرون بالعودة، في الوقت الذي يتحول فيه ما يقدر بأربعة ملايين من فيتنامي الشتات إلى أخذ دور أكبر من مجرد دعم تحويلات المغتربين السنوية، التي تضعها التقديرات الرسمية عند 12 مليار دولار. لقد تم إغراؤهم بمجموعة من الحوافز على مدى العامين الماضيين، بدءا من الإعفاءات الضريبية على السيارات المستوردة إلى تخفيف قواعد امتلاك العقارات والحصول على الجنسية. وبالنسبة لدولة تسعى لعودة النمو القوي، وسط استمرار المخاوف حول السلامة الهيكلية للاقتصاد، يعتبر فيتناميو الشتات أداة مهمة.
يقول دين تين دونج، وزير المالية “إنهم مصدر استثمار جديد محتمل لفيتنام. أعتقد أنهم سيعودون بشكل أكبر وأكبر”.
إن التودد إلى فيتنامي الشتات يعد جزءا من انفتاح أوسع للاقتصاد بدأ في الثمانينيات وتسارع عندما أنهت الولايات المتحدة حظرها التجاري في عام 1994. ذلك الذوبان حوَّل فيتنام إلى واحدة من “أسواق التخوم” المرغوبة من المستثمرين، وجعل منها حلقة تصنيعية حاسمة في سلاسل التوريد العالمية للشركات من قبيل “أبل” و”أديداس”. لكن فقاعة العقارات تطورت خلال منتصف وأواخر القرن العشرين، وتعثر الاقتصاد بعد الأزمة المالية العالمية، متراجعا بسبب الديون المعدومة والمتاعب المالية لدى شركات الدولة الكبرى التي تمثل 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. هبط النمو إلى أدنى مستوياته خلال أكثر من عقد، بينما ارتفع التضخم في عام 2011 إلى 18.7 في المائة. ربما كان الشعار الأعظم للفائض هو الإنقاذ الحكومي القسري لعام 2010 لمجموعة صناعة بناء السفن الفيتنامية بعد أن جمعت ديونا بلغت 4.5 مليار دولار.
اعترف نجوين تان دونج، رئيس الوزراء، بوجود “أوجه قصور في الإدارة الحكومية وضعف هيكلي اقتصادي”.
هذا يعني أن العائدين أصبحوا عنصرا مهما في مرحلة البدء في الفصل الاقتصادي الثاني في دولة كانت تنمو ذات مرة بنسبة تصل إلى 10 في المائة سنويا. ويتحدث بعض المسؤولين بحذر حول الانتعاش الآن، بعد أن ارتفع الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من 6 في المائة خلال الفصول الثلاثة الماضية. واستفادت فيتنام أيضا من عملية نقل المصانع من قبل الشركات العالمية التي تبحث عن الأيدي العاملة الأرخص، في الوقت الذي ترتفع فيه تكاليف الأجور في الصين وتايلاند، المنافسين الإقليميين. استثمرت هانوي بكثافة في الحوافز المالية من أجل جذب الشركات المصنعة الكبيرة، مثل سامسونج، شركة الإلكترونيات الكورية، وإنتل، الشركة الأمريكية المصنعة للرقائق.
تحقيق الازدهار
لكن يبقى الشك المتعلق بانتعاش فيتنام، الذي يكثر الحديث عنه: تبقى مشكلات الديون المعدومة، والخطة الرائدة لتخصيص مئات الشركات التابعة للدولة توقفت. تعرضت جهود هانوي لضربة أخرى في أيار (مايو) الماضي، عندما تحولت الاحتجاجات الموافق عليها رسميا ضد الصين، خلال نزاع بحري، إلى أعمال شغب أدت إلى نهب مئات الشركات المملوكة لأجانب. وبينما كان الدافع هو المشاعر المناهضة للصين، رأى بعض المحللين أن تلك الفوضى تعبر أيضا عن إحباط العمال بسب الأجور والظروف التي يعيشونها.
مع ذلك، رغم الشكوك الواسعة النطاق، الثروة المعروضة في مدينة هوشي منه تدل على مدى البلاء الحسن الذي يبلاه أفراد جيل مواليد الحرب.
يقول تران كووك توان، كبير الإداريين الماليين في “فييت يوسي سي فود”، وهي شركة مواد غذائية لها طموحات دولية، “إنه أكثر ثقة بعد بضع سنوات صعبة حقا عندما عاد لأول مرة في عام 2009”. ويتحدث عن الطريقة التي غادر بها كثير من أصدقائه الذين كانوا يعملون لدى صناديق الاستثمار في فيتنام البلاد في 2012-2013. لكن كثيرا من الذين بقوا كانوا يميلون إلى إطلاق شركات ناشئة، بدءا من الصيدليات إلى المحال التجارية ذات التصميم المعماري، أو جلب علامات تجارية دولية كبرى لهذه السوق الاستهلاكية الكبيرة.
ويقول “المغتربون الذين جاءوا بوصفهم مهنيين غادروا. الذين بقوا هم رجال الأعمال. الآن، الاقتصاد آخذ في لانتعاش والمغتربون يعودون”.
أحد العائدين هنري نجوين، وهو نجل مسؤول في حكومة ما كان يعرف بفيتنام الجنوبية، لم يكن حتى قد بلغ سنتين من العمر حين غادر سايجون مع عائلته ليعيش طفولة أمريكية بالكامل في ولاية فرجينيا. وهو الآن يدير “إي دي جي فينشر فيتنام” IDG Ventures Vietnam، وهي شركة لرأس المال المغامر تركز على التكنولوجيا، وحصل على امتياز لفتح أول منفذ لـ “ماكدونالدز” في البلاد العام الماضي. وهو متزوج أيضا من نجوين ثانه فونج، وهي خبيرة مالية وابنة رئيس وزراء البلاد.
ويقول “إنه كان يُنظَر إليه بفضول أكثر من الارتياب عندما عاد لأول مرة في عام 2001. واستطاع حينها النجاة من بداية صعبة ليصبح واحدا من رجال الأعمال الأرفع مقاما في البلاد”. ويضيف “لقد نشأت وأنا أتحدث القليل جدا باللغة الفيتنامية”. وهو خريج جامعة هارفارد وكان جزءا من جمعية أعلنت العام الماضي أنها قد تشكل فريقا جديدا في دوري كرة القدم في لوس أنجلوس. يقول “شعرت بالأسف، وحتى بالعار، عند عودتي إلى فيتنام أول مرة وكان الأمر بالنسبة لي غاية في الصعوبة، لأن مهاراتي اللغوية كانت شبه معدومة”.
وتظهر قصته كيف أن عودة فيتنامي الشتات تعتبر حكاية ثقافة وسياسة وكذلك أرباح. ولا يزال الحكم الشيوعي في فيتنام بمنأى عن أي تحد صريح كبير: الحكومة تسجن المنشقين والحزب هو الطرف الوحيد الذي يخوض الانتخابات. وهناك خلافات داخل الحزب، خصوصا حول ما إذا كان ميل السياسة أكثر نحو الصين أو الغرب. لكن أهم التغيرات ستحدث العام المقبل خلال مؤتمر الحزب يعقد مرة كل خمس سنوات، وليس من خلال صناديق الاقتراع.
أحد العائدين من أوروبا يشعر بالبهجة لفرص الأعمال المتاحة ويقول “يمكنك أن تفعل أي شيء في فيتنام”، لكنه يشعر بالقلق أيضا بشأن التعسف المتصور عن الدولة. الكسب غير المشروع لا يزال يمثل مشكلة كبيرة في بلد في المرتبة 119 من بين 175 بلدا في تصورات منظمة الشفافية الدولية لمؤشر الفساد العام الماضي. ويقول هذا العائد “هذا هو الشيء الذي يقلقني، لديهم ملف حول كل شخص. لا يهم مدى نظافة أعمال الشخص، إذا كانوا يريدون إخراجك فستخرج”.
التوتر العالق
ثمة عائق سياسي ثان لبعض فيتنامي الشتات هو عداء حقبة الحرب العالق. الفجوة بين الشمال والجنوب، بما يصاحب ذلك من شعور المنتصر والمهزوم، لم تعد موجودة رسميا لكن يلاحظ أكثر من شخص واحد كيف أن رجال الأعمال من هانوي، العاصمة السابقة لفيتنام الشمالية، غالبا ما ينجحون في مدينة هوشي منه، لكن نادرا ما يكون العكس. أحد العائدين من الولايات المتحدة يعمل الآن في مجال التمويل ويلاحظ كيف يستحوذ أقارب وأصدقاء مسؤولين حكوميين بشكل خاص على عديد من المناصب البارزة في الشركات الفيتنامية الكبرى.
ويقول “لن أقول إنهم لا يملكون المهارات اللازمة ليكونوا ناجحين، لكن من الواضح أن علاقاتهم تساعد على ذلك”.
فييت تان، وهي جماعة سياسية يستقر قادتها الرئيسيون خارج فيتنام، تقود حملات علنية ضد الحكومة في هانوي وتقول “إن البلاد لديها القدرة على أن تصبح نمرا اقتصاديا”، لكن الشعب الفيتنامي “يجد نفسه مقيدا بسبب الدكتاتورية المتخلفة”.
فام بينه مينه، نائب رئيس الوزراء ووزير خارجية فيتنام، يصر على أن “ليس هناك تحيز ضد أولئك الذين غادروا”. وتحاول الحكومة حتى تشجيع أكثر من في الشتات على العودة، من خلال برامج تشتمل على مخيمات صيفية لأطفالهم. وردا على سؤال حول ما ستفعله السلطات بخصوص أولئك الذين يقول إنهم لا يزالون “يحتفظون بالكراهية” للحزب الشيوعي، يقول “من سياستنا الترحيب بعودتهم للوطن”.
واعترفت كي ديوين في برنامج “باريس ليلا” بأن شهرتها ساعدت على تسهيل إعادة دخولها البلاد. وأنها تعود أيضا بشكل تدريجي فقط، ولا تزال تقضي وقتا طويلا في الولايات المتحدة. وأن لديها ما يذكرها مباشرة بالتوترات التي لا تزال قائمة: برنامجها أزعج هانوي في الماضي ويتم تعميمه في فيتنام أساسا عن طريق أقراص الفيديو الرقمية المقرصنة.
لكن بعد 40 عاما على فوضى تلك الأيام الغابرة في سايجون، الشعور بوجود فرصة كبيرة لأولئك المحظوظين بما فيه الكفاية ليكونوا قادرين على انتهازها يقترب من مركز الثقل عند كي ديوين، ويدفعها باتجاه العودة إلى منزلها السابق. وفي حين إن الولايات المتحدة هي أصلا “ثابتة ومستقرة” إلا أن فيتنام “جائعة لكل شيء”، كما تقول. “لقد بدأت أعود أكثر وأكثر في كثير من الأحيان. أنظر حولي في السوق هنا إلى النمو، وأعتقد أن هناك نجاحا باهرا، وهناك كثير من الإمكانات”.