بعد عقد كامل من دون موازنة في لبنان، ارتفعت أسهم العجز في الاسابيع الماضية بعدما طرح وزير المال علي حسن خليل مشروع موازنة على مجلس الوزراء لاقرارها قبل رفعها الى مجلس النواب. ويُسجّل في حساب خليل، حرصه على قوننة الانفاق ومنع صرف المزيد من الاعتمادات والتعجيل في اقرار الموازنة، الاّ أن أرقام المشروع المقدم لا تبشر بالخير كثيراً على الصعيد المالي. فالارقام تُشير الى انفاق عند 23,362 ملياراً، مع نفقات جارية بقيمة 21,523 ملياراً، أي ما يوازي 92% من اجمالي الانفاق. (ستزيد حوالى 1200 مليار ليرة في حال تضمنت السلسلة، في حين تقدر العائدات بنحو 15 الف مليار ليرة تقريباً) ومن المنتظر أن ترتفع فاتورة خدمة الدين العام لسنة 2015 الى 6,585 مليارات منها 2,555 مليارات للقروض الخارجية، ما يضع الدولة في موقف حرج تجاه الخارج وسيفرض اصدارات عدة هذه السنة بقيمة الاصدار الأخير. ووفق الارقام، العجز المُقدّر في الموازنة يفوق الـ7000 مليار ليرة على رغم ادخال مُعظم ايرادات سلسلة الرتب والرواتب في المشروع، وسيزداد مع اقرار السلسلة ليفوق الـ10000 مليار ليرة أي 38% من الموازنة و15% من الناتج المحلّي الاجمالي.
في هذا السياق، يُوضح الخبير الاقتصادي والاستراتيجي جاسم عجاقة لـ”النهار”، أن النقطة الوحيدة الايجابية في هذا المشروع، هي قوننة الانفاق الذي تخطّى كل التوقعات. “اذ كيف من المعقول لبلد ماليته العامة في عجز مزمن الاّ يقوم بوضع موازنة تقشفية أقلّه على صعيد الانفاق الجاري؟”. ويُضيف “ان غياب خطة اقتصادية واعتماد مبدأ الموازنة بالبنود هما السبب الأساسي لزيادة العجز وتالياً الدين العام. فهذا الأخير لا يُمكن اطفاؤه الا بالنمو، واليوم لا يوجد نمو، فهل نستمر بالانفاق على الوتيرة نفسها كما في الأوقات التي سجّل النمو فيها 7 و8%؟”.
وعن الحاق سلسلة الرتب والرواتب بمشروع موازنة سنة 2015، يقول عجاقة “ان هذا الأمر هو بمثابة انتحار الا اذا كان مُحاكاً مع حاكم مصرف لبنان، وبذلك سيتم طبع العملة بشكل كبير وسيزداد التسييل الكمّي لدين الدولة، وهذا الأمر اذا حصل يطرح السؤال عن قدرة مصرف لبنان على الدفاع عن الليرة اللبنانية. فدفع مستحقات السلسلة سيفرض نسبة تضخم مرتفعة تأتي من مصدرين: الأول زيادة الكتلة النقدية، والثاني زيادة الاستهلاك التي تدفع بالأسعار صعوداً”.
ويُشير الى “أن ثمة نظريات اقتصادية تدعم فكرة التضخم لمحاربة الدين العام عبر دفعه الى مستويات عالية. فالتضخم يؤدي دور المنظم في أوقات الأزمات ويسمح في اعادة التوازن المالي، علماً أن تضخماً بنسبة 5 الى 6% لسنوات عدة قد يسمح للبنان بتخفيف دينه العام”.
وعن الآلية التي تسمح للتضخم بخفض الدين العام، يقول “ان سرعة التضخم هي التي تقضي على الدين العام وذلك عبر ايجاد تضخم يفوق توقعات المُستثمرين”. لكن وفق عجاقة، لا يُمكن تطبيق هذه النظرية في لبنان لأن الدولة تقترض بالدولار الأميركي وليس بالعملة الوطنية، كما أن المقرضين الأساسيين هم المصارف الذين سيتحمّلون الخسارة. أيضاً، يتوجب ان نذكر بأن اعتماد نسب تضخم عالية تُجبر الأجيال المقبلة على القبول بنسب عالية من التضخم، وأي محاولة مُستقبلية لتثبيت الأسعار ستُعيد الدين العام الى الواجهة. فهل ثمة احتمال أن يكون ذلك وارداً في انتظار استخراج النفط؟
ينص مشروع موازنة 2015 على أن التوقعات الماكرو – اقتصادية لسنة 2015 تدور حول نمو حقيقي بنسبة 2,7% ونسبة تضخم 4,5%. وهنا يقول عجاقة “من المُستحيل تحقيق نمو بنسبة 2,7% مع وضع سياسي وأمني واقتصادي كالوضع الحالي. وكيف يُمكن دفع التضخم الذي من المُفترض أن يواكب النمو من 1 الى 4,5%؟ بالطبع هذا مستحيل الا في ظل سياسة طبع العملة”. ويُضيف “ان تحضير الموازنة يتمّ بالطريقة نفسها منذ عقود ولا تغيير في المنهجية، لذا يخرج مشروع سنة 2015 كسابقيه ويُكرّس العجز كعرف في الموازنات العامة في لبنان”.
وتبقى سلسلة الرتب والرواتب معضلة تُعوق اقرارها مشكلة التمويل والتضخم وما ينتج منها. فمشروع الموازنة ينص على زيادة الايرادات باجراءات ضريبية جديدة تم التوافق عليها في مجلس النواب وتضم زيادة الضرائب على دخل الشركات، الأملاك المبنية، رسم الطابع المالي على المياه الجوفية، رسم الوكالات، رسم استهلاك على استيراد المازوت، رسوم السير، الطابع المالي النسبي، الطابع المالي على السجل العدلي، الطابع المالي على الفواتير والايصالات التجارية، الطابع المالي على فواتير الهاتف، مضاعفة رسم الكاتب العدل، رسم على أرباح التفرغ، رسم على اشغال الأملاك العمومية البحرية وغيرها. ويتوقع المشروع أن تجلب هذه الاجراءات الضريبية ما يوازي 1330 مليار ليرة التي بالطبع لا تُغطّي كلفة السلسلة.
وفي هذا السياق، يقول عجاقة “لا يوجد الاّ وسيلة واحدة لدفع مستحقات السلسلة من دون تداعيات سلبية على الاقتصاد: دفع 20% من قيمة السلسلة من الكتلة النقدية 2 (M2) البقية تدفع للمستفيدين عبر اصدار سندات خزينة تُعطي المواطن الفائدة نفسها التي تتلقاها المصارف. وهذا الأمر يسمح بصد تداعيات التضخم اذ أن قسم كبير من السلسلة مدفوع على شكل كتلة نقدية 4 (M4) كما أن مخاطر خفض التصنيف الائتماني للبنان تُصبح أقلّ بكثير مع خفض العجز”.
وبغض النظر عن المنحى الذي ستأخذه جلسة مجلس الوزراء اليوم، تظهر الى العلن حاجة السياسيين الى تقنيين لمساعدتهم في اتخاذ قرار قد يكون من أكثر القرارات المصيرية في تاريخ لبنان.