لا يبدو أن نعيم عباس (اسمه الحقيقي نعيم محمود) والملقّب بـ”أبو اسماعيل” و”أبو خالد المقدسي” (وهو اللقب المعروف أكثر بين الجماعات الإرهابيّة)، مستعجلٌ على المحاكمة. وهذا ليس تحليلاً لمتابعي جلسات عباس في المحكمة العسكريّة التي لا تسير دائماً بسبب تغيّب وكيله المحامي طارق شندب، وإنّما لأنّ “الوكيل المعتمد للسيارات المفخّخة” قالها من دون مواربة: “حكمي طويل مش مستعجل.. وسنتحاكم في النهاية”.
هو إذاً ينتظر “حكم الله”. هكذا أجاب الرجل ذو اللكنة الفلسطينيّة، الذي يخفي خلف ابتسامته الدائمة الكثير من المكر والجرائم الإرهابيّة (باعترافه)، على سؤال هيئة المحكمة، مبرراً غياب وكيله بالقول: “الحق معه وهو يعرف مصلحتي أكثر مني، وربّما تكون مصلحتي في تأخير المحاكمة”.
ولا يمكن تفسير كلام “أبو خالد المقدسي” إلّا بكونه موعوداً بتسوية يتحدّث عنها البعض ليشير إلى أنّ غير المحكومين هم الأوفر حظاً بأن يحظوا بـ “نعمة” التفاوض على أسمائهم مقابل إطلاق سراح العسكريين المخطوفين. وهكذا سرت كلمة “تسوية” كالنّار في الهشيم بين المحامين والجالسين داخل قاعة المحكمة، وحتى أنّ أحد أعضاء هيئة المحكمة قال لعباس بسخرية: “إنت ناطر التسوية”. لم يضِف عباس أي شيء جديد على جلساته التي ترجأ مراراً وتكراراً، ليكون مصير جلسته أمس كسابقاتها: إرجاؤها إلى 18 كانون الأوّل المقبل.
ولأنّ نعيم عباس هو “الصامت الأكبر” باعتباره لا يملك إفادة واحدة داخل المحكمة العسكريّة لتغيّب وكيله المستمرّ، فإنّ رئيس المحكمة العسكريّة الدائمة العميد الركن الطيّار خليل ابراهيم قفز بحنكة فوق تغيّب شندب، لتكون النتيجة: ها هو نعيم عباس يعود ويدخل إلى قاعة المحكمة بلباسه الرياضيّ الكحلي وضحكته التي تشير إلى لا مبالاته، وإنّما هذه المرّة كشاهد في قضيّة المدعى عليهما: إيهاب زهير الحلاق (الذي يعتقد أنّه كان مسؤولاً في جبهة النصرة) والسوري عبيدالله تيسير زعيتر الملقّب بـ “أبو معن الإعلامي” (الذي اعترف أنّه كان مسؤولاً إعلامياً عن المركز الإعلامي لجبهة النصرة). وبالتالي كانت إفادة الفلسطيني الذي ينام على “صندوق أسود” هذه المرّة لا تحتاج إلى شندب كونه شاهداً بعد أن أقرّ زعيتر أنه رأى “أبو خالد المقدسي” في مكتب زعيم “النصرة” أبو مالك التلي.
وقف نعيم عباس من جديد تحت قوس المحكمة، فأكّد أنّه يعرف “أبو معن الإعلامي” بالاسم وهو “أشهر من نار على علم” إلا أنّه لم ينتبه له في مكتب أبو مالك التلي، مشدداً على أنّنا “لا نعرف بعضنا بأسمائنا بل بألقابنا أبو فلان وأبو علّان”.
بكلّ أريحيّة أجاب عباس على أسئلة العميد ابراهيم، وأجاب كما لو أنّه يعترف بشيء طبيعي، ومع ابتسامة أيضاً. سأله ابراهيم: “ماذا كنت تفعل عند أبو مالك التلي؟”، ليردّ: “قضايا متصّلة بالإرهاب”، حتى كاد بعض الحاضرين أن يضحك على هذه الإجابة “السلسة”!
روى “أبو خالد المقدسي” أنّ “التلي” فاتحه “بموضوع تفخيخ السيارات وإرسال استشهاديين. وكان دوري التفخيخ واستقبال الاستشهاديين”، من دون أن يشير إلى السيارات التي عمل على تفخيخها وإن كانت التقارير الأمنية تشير إلى ضلوعه في تفخيخ السيارتين اللتين انفجرتا في النبي عثمان ووادي حميّد.
وذهب “الموقوف الجريء” إلى أبعد من ذلك في اعترافاته، إذ لفت الانتباه إلى أنّه لا يحبّذ أن ترسل له سيارات مفخّخة لأنّه لا يثق بطريقة تفخيخها. “أنا بحبّ اشتغل بإيدي”، قاصداً أنّه كان يفضّل أن يفخّخ السيارات بنفسه. وأشار في الوقت عينه إلى أنّ هناك الكثير من السيّارات التي كانت “تنزل مفخّخة”، كاشفاً أيضاً أن “أبو خالد الإدلبي” (من إدلب) هو من أهمّ الأشخاص الذين يعملون في مسألة تفخيخ السيارات.
وبالضحكة نفسها، أنكر نعيم عباس أن يكون أقوى مفخّخ سيارات في عين الحلوة ولبنان، بل “أنصف” توفيق طه، واصفاً إيّاه بأنّه “معلّمي ومدربي”، ملمّحاً إلى أنّه كان يعطي دروساً لكيفيّة تفخيخ السيارات. نعيم عباس لا يبدو أنّه بوارد إنكار أي تهمة يُسأل عنها، وإن كان يعلم أن استجوابه لن يطول أكثر لسؤاله أسئلة محدّدة تعليقاً على شهادة الموقوفين الآخرين. وهكذا كان..
وبعد شهادة نعيم عباس، كانت المحكمة العسكرية تستجوب “العقل الالكتروني” لـ”كتائب عبدالله عزّام” الموقوف بلال كايد. وقف الشاب النحيل ذو اللحية السوداء الكثّة، مؤكداً بابتسامة تعلو وجهه كتلك التي كانت تعلو منذ قليل وجه نعيم عباس، إفادة الموقوف عبيدالله زعيتر بأنّه كان متواجداً قبيل إطلاق عدد من الصواريخ من سوريا إلى مناطق لبنانيّة (كاللبوة والهرمل)، مشيراً إلى “أننا سبق لنا أن أطلقنا أيضاً صواريخ من الجنوب على فلسطين المحتلة”.
في حين أشار كايد الملقّب بـ “أبو عمر” والذي لا يتعدّى الـ28 عاماً أنّه لم يطلق بنفسه الصواريخ “بل عملي كان مقتصراً على الاستطلاع ولا سيّما تركيب الدوافع الكهربائيّة للصواريخ”، مؤكداً معرفته بالموقوف زعيتر كونه كان يصوّر عمليات إطلاق الصواريخ.
الشاهد الثالث كان حسام الصباغ الذي أكّد لقائه بالموقوف الحلاق في القلمون، وذلك خلال ذهابه إلى هناك “بطلب من هيئة العلماء المسلمين، فالتقيت المسؤولين العسكريين الذين فاق عددهم العشرين بغية إبعاد لبنان عما يجري في سوريا، خصوصاً بعد أن كثر المبايعون لبعض التنظيمات من قبل شبّان لبنانيين”، لافتاً الانتباه إلى أن الحلاق كان يعمل في المساعدات الإغاثية، ولكنه يظنّ أنه من مسؤولي “النصرة”.
“أبو مالك التلي” ليس شيخاً معمّماً!
وإذا كان الحلاق الملقّب بـ”أبو سهيلة”، الذي كان في السويد منذ الثمانينيات ويملك جنسيّة سويديّة، قد نفى انضواءه في “جبهة النصرة”، مشيراً إلى أنّه ذهب إلى القلمون بغية تقديم مساعدات إغاثية إلى السوريين وأنه أقلّ “أبو الوداعين” (أحد الإرهابيين السعوديين) من الحمرا إلى زحلة من دون أن يعرف ما هو دوره الحقيقي، فإن صهره زعيتر الذي تزوّج ابنته الصغرى بعد أن عرضها عليه والدها ثم تحادثا عبر الإنترنت، قد أكّد الكثير من الأمور التي كان قالها في الجلسة السابقة.
فقد كُلّف “أبو معن الإعلامي” بمسؤوليّة الإعلام من قبل أبو مالك التلي مباشرةً بعد أن “قتل كلّ العناصر الذين كانوا في المكتب، لأصبح مسؤولاً على نفسي لعدة أشهر لأنّه لم يكن هناك غيري”. وهو قدّم لـ”التلي” البيعة “بالسمع والطاعة”، زاعماً أنّها كانت “بيعة آنية بعد أن خرج المقاومون من القلمون ولم يتبقَّ أمامي سوى الانضواء في صفوف النصرة. وصار لديّ لاحقاً حساب على تويتر لنشر أخبار النصرة في القلمون، بالإضافة إلى تسجيلات مصوّرة لعدد من الإعدامات بإطلاق الرصاص وإطلاق الصواريخ من سوريا إلى لبنان، والتي كنت أعطيها إلى المنارة لتنشرها لاحقاً عبر المركز الإعلامي للنصرة”.
وكان لـ “أبو معن” مكتب محاذٍ لمكتب أمير “النصرة”، الذي طلب منه أكثر من مرة الذهاب من يبرود إلى رأس العين، وتحديداً إلى “الذاتية” (مركز مزوّد بأسماء الانتحاريين الذين ينتظرون دورهم للقيام بعمليات انتحاريّة) لإحضار انتحاريين، لكنّه شدّد على أنه لم يكن يعلم أنهم انتحاريون سوى معرفته بـ “أبو عبد الرحمن” الذي عرف لاحقاً أنّه فجرّ نفسه في منطقة النبي عثمان.
وأكّد أنّ “التلي” ليس شيخاً معمماً وهو الأمير والمسؤول العام وهو رأس الهرم في “النصرة” وذقنه طويلة، و”أبو مسلم” هو مساعده الأقرب، نافياً أن يكون يعرف الهيكليّة التنظيميّة لـ”النصرة” أو أعضاء “مجلس الشورى” على اعتبار أن “الأسماء تبقى سريّة”.
وأشار “أبو معن الإعلامي” إلى “أنني فككت البيعة بعد أن تزوّجت للسفر إلى السويد، وأخبرت ذلك لأمير النصرة الذي أشار إلى أننا دبّرنا أحد الأشخاص مكانك، لكنني لا أعرفه”، كاشفاً أن “أبو القعقاع” الذي كان المسؤول الإعلامي قبله قد سافر إلى ألمانيا”.
وبعد أن استمهل وكيل الحلاق وزعيتر المحامي خالد عيتاني للمرافعة، أرجأ العميد ابراهيم الجلسة إلى 1 حزيران المقبل.