Site icon IMLebanon

تغيّـرات عميقة في علاقات الطاقة بين روسيا وأوروبا


اتهمت المفوضية الأوروبية مجموعة «غازبروم» الروسية باستغلال موقعها المسيطر في ثماني دول في وسط أوروبا وشرقها. وأياً كانت النتائج بعد مهلة الأشهر الثلاثة الممنوحة للشركة الروسية للرد على الاتهامات، بدأت ترتسم معالم مرحلة جديدة من العلاقات بين موسكو وبروكسيل، تفتح على تغيرات درامية في علاقات الطاقة بين الجانبين وخياراتهما المستقبلية.
وكشفت المفوضية الأوروبية عن النتائج الأولية للتحقيق الذي بدأ في آب (أغسطس) عام 2012، وخلص إلى أن «غازبروم» تعرقل التنافس عبر الحدود بإنشاء معوقات مصطنعة تمنع إرسال الغاز من بعض بلدان أوروبا الوسطى والشرقية إلى بلدان أخرى، وتفرض قيوداً على التصدير وبنوداً تنص على ضرورة استخدام الغاز الذي يتم شراؤه في منطقة محددة عندما تزود زبائنها به.
وأضاف التقرير أن تقسيم الأسواق الوطنية للغاز أتاح لـ «غازبروم» أيضاً فرض أسعار غير عادلة في هذه المرحلة. كما تتهم المفوضية «الشركة بأنها تطلب من تجار الجملة أسعاراً أعلى من الأسعار المرجعية، عبر ربط أسعار الغاز بأسعار سلة من المشتقات النفطية. وأخيراً أعلنت المفوضية أن الشركة الروسية تستغل موقعها المهيمن في السوق الأوروبية عبر ربط عمليات تسليم الغاز إلى بلغاريا وبولندا، بالحصول على التزامات مميزة من جانب تجار الجملة تتعلق بالبنى التحتية لنقل الغاز.
لم يتأخر الرد الروسي وجاء على ثلاثة مستويات، إذ نفت «غازبروم» الاتهامات مشددة على أن لا أساس لها. وأكدت التزامها الكلي بالقوانين الدولية والوطنية للبلدان العاملة فيها. ولفت بيان للشركة إلى أن ما تقوم به في السوق الأوروبية بما في ذلك مبادئ تحديد الأسعار، يتطابق كلياً مع المعايير التي يطبقها المنتجون والمصدرون الآخرون للغاز الطبيعي. وأكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن العقود بين «غازبروم» والبلدان الأوروبية تتطابق مع القوانين التي كانت مطبقة في الاتحاد الأوروبي. وانتقد الاتهامات لافتاً إلى أنه «أمر غير مقبول على الإطلاق». ولفت إلى أن «اتفاق التعاون والشراكة المبرم مع الاتحاد الأوروبي عام 1991، لا يزال سارياً ولم يبطله أحد، موضحاً أنه ينص على عدم اتخاذ أي من الطرفين إجراءات تؤدي إلى تدهور ظروف العمل.
وأكد الكرملين على لسان الناطق الصحافي باسم الرئيس، دميتري بيسكوف، أن «روسيا والشركة ستدافعان عن مصالحهما». لكن أمل في «التوصل إلى حل وسط في النزاع بين الاتحاد الأوروبي وغازبروم».
وأشار خبراء روس إلى أن «غازبروم» قدمت في العامين الأخيرين تنازلات كبيرة من باب الموافقة على إعادة تصدير الغاز المصدر إلى أوروبا، إذ تسلّمت أوكرانيا كميات من الغاز المصدر إلى بلدان من شرق أوروبا بعد المشاكل الأخيرة مع روسيا، على خلفية عدم الاتفاق على التسعير. كذلك أبطل العمل في العقود الجديدة بمبدأ «استلم أو ادفع» الذي يجبر المتعاقدين الأوروبيين على الدفع وفق الكميات المتعاقد عليها. ورُوجعت أسعار العقود الطويلة الأجل التي كانت تنطلق من ربط العقود بأسعار النفط.
كما توقفت «غازبروم» عن مشاريعها الطموحة لتطوير البنى التحتية في أوروبا للوصول مباشرة إلى المستهلك، وهو ما كانت تصر عليه وتعمل لأجله منذ سنوات. وتكشف اتهامات المفوضية الأوروبية لـ «غازبروم» في إطار الخلافات في السنوات الأخيرة، عن تباين كبير في نظرتي موسكو وبروكسيل إلى موضوع أمن الطاقة، وتصوراتهما المستقبلية. إذ بعد الثورة البرتقالية في أوكرانيا وسلسلة الأزمات حول الغاز التي تسببت غير مرة، في قطع الإمدادات عن أوروبا في فصل الشتاء، سعت روسيا إلى بناء خطوط جديدة من دون المرور بأوكرانيا. وأطلقت عام 2009 مشروع «السيل الشمالي» لنقل الغاز إلى ألمانيا عبر قاع بحر البلطيق بطاقة 55 بليون متر مكعب سنوياً. لكنّ ظروفاً وصعوبات اقتصادية وسياسية عطلت مشروع «السيل الجنوبي»، ما اضطر روسيا إلى التخلي عن مشروع «السيل الجنوبي» نهاية العام الماضي، والتوجه نحو بناء «ترك ستريم» المقرر أن ينقل الغاز إلى تركيا ومنها إلى اليونان بحلول عام 2019، لتضعف أهمية شبكة خطوط نقل الغاز الأوكرانية أو تنعدم عملياً في حال إنجاز المشروع الجديد.
ومن تسلسل الأحداث في السنوات الماضية، يتضح أن روسيا تركز على موضوع تنويع شبكات نقل الغاز إلى أوروبا، وتخفيف الاعتماد تدريجاً على بلدان الترانزيت ببناء خطوط بحرية تصل مباشرة إلى المستهلكين.
وتحاول موسكو جذب بعض الأطراف الأوروبيين إلى جانبها للضغط في اتجاه عدم تنفيذ الحزمة الثالثة من قانون الطاقة واستراتيجيتها الأوروبية الجديدة، ما سيفضي في النهاية إلى بناء سوق أوروبية موحدة للطاقة بحلول عام 2030. وتستغل اعتماد بعض البلدان الأوروبية على الغاز الروسي بنسبة تتجاوز 90 في المئة، وحاجة أخرى إلى الأموال. وتتسلح بعدم وجود بديل مباشر في السنوات المقبلة وبعض التجارب السابقة، عندما اضطرت بولندا وبلدان البلطيق إلى شراء الغاز من النروج أو التعاقد مع بلدان أخرى بعقود أغلى بنحو 40 في المئة مقارنة بالأسعار الروسية. وفي المقابل، تسعى أوروبا إلى خفض الاعتماد على الغاز الطبيعي من روسيا، وتنويع مصادر الإمدادات من دول أخرى. وكشفت مفوضية الطاقة الأوروبية نهاية شباط (فبراير) الماضي، عن تصوراتها لمفهوم «الاتحاد في مجال الطاقة» حتى عام 2030، وتتضمن الوثيقة إعادة تأهيل الفحم الحجري كمصدر للطاقة، وزيادة إنتاج الغاز الصخري. وتقضي الخطة بتوافق القوانين الوطنية في مجال الطاقة لبلدان الاتحاد وخلق سوق أوروبية موحدة للطاقة، ودمج شبكات نقل الغاز في البلدان الأوروبية، وربطها بالبنية التحتية اللازمة لتغطية أي نقص يحصل في بلد آخر.
وشددت خطة الاتحاد الأوروبي على ضرورة تنويع مصادر إمدادات الغاز. وكان لافتاً أن روسيا لم تدرج في قائمة الشركاء المحتملين للتنفيذ، وتؤكد الخطة السعي إلى علاقات استراتيجية مع الجزائر وتركيا وأذربيجان وتركمنستان وحتى إيران والعراق. وكشفت المفوضية نيتها حتى نهاية العام الحالي توقيع مذكرة تفاهم لبناء «خط الغاز العابر لقزوين» بين تركمانستان وأذربيجان، لنقل الغاز لاحقاً إلى أوروبا من دون المرور بروسيا.
ولا يمكن فهم عدم إدراج روسيا في عداد الشركاء الاستراتيجيين للاتحاد الأوروبي، على رغم أنها تزود بلدانه بنحو ثلث حاجتها من الغاز وربع استهلاكها من النفط، إضافة إلى الفحم الحجري والوقود النووي، إلا في إطار محاولة التخلص على المديين المتوسط والبعيد من هيمنة «غازبروم» في سوق الغاز في أوروبا، وهذا ما عبرت عنه الوثيقة بوضوح عندما أشارت إلى أن الاتحاد الأوروبي «ينظر في إعادة صوغ علاقات الطاقة مع روسيا عندما تحل الظروف المناسبة».
ومع أن الجانبين لم يأتيا على ذكر أي دوافع سياسية وراء اتهام المفوضية الأوروبية الأخير لـ «غازبروم»، فإن مشكلات السنوات الماضية التي تعمقت بعد ضم القرم وأزمة جنوب شرق أوكرانيا تفرض نفسها بقوة في استراتيجيات كل منهما على المديين المتوسط والبعيد. إذ إن التوجه الروسي واضح نحو الشرق عبر بناء خط «قوة سيبيريا»، وإيصال الغاز إلى الصين وجنوب شرق آسيا، من دون إهمال تعطيل أي مشروع لنقل الغاز إلى أوروبا من آسيا الوسطى دون المرور بروسيا.
وفي وقت تنفذ بروكسيل استراتيجيتها لتخفيف تبعيتها للغاز الروسي بهدوء، وبعيداً من المخططات لاستغلال الغاز الصخري في أوروبا، واستيراد الغاز المسيل من الولايات المتحدة وقطر، وزيادة حصة الطاقة النظيفة، وإمكان العودة إلى التوسع في بناء المفاعلات النووية على رغم اعتراض المؤسسات المدافعة عن البيئة، بدأت النروج بهدوء في السنة الأخيرة زيادة حصتها في السوق الأوروبية من نحو 34 في المئة عام 2013 إلى 38 في المئة عام 2014، وجاءت هذه الزيادة على حساب «غازبروم» التي تراجعت صادراتها إلى أوروبا في الربع الأخير من العام الماضي إلى نحو 20.1 بليون متر مكعب، في مقابل 31.3 بليون زودت بها النروج بلدان الاتحاد الأوروبي.
وعلى رغم التصعيد الحاد في لهجة المفوضية الأوروبية ورد «غازبروم» السريع، اتجهت غالبية التوقعات نحو التوصل إلى اتفاق مع «غازبروم» في غضون 12 أسبوعاً، وعدم الدفع بالقضية نحو المحاكمات التي قد تستغرق سنوات طويلة من دون التوصل إلى نتائج محددة. وفي المقابل ربما يسبب تأزم العلاقات في ظل الظروف السياسية الراهنة توقف الإمدادات. ويبدو أن الطرفين محكومان بالتوصل إلى اتفاق سريع يتضمن تعديلات محددة في الآليات والعقود الناظمة لصادرات الغاز في السنوات المقبلة، كي يتسنى لكل طرف ترتيب أوضاعه بأقل الخسائر الاقتصادية الممكنة. إذ لا يزال الاتحاد الأوروبي يستورد أكثر من 125 بليون متر مكعب سنوياً من الغاز من روسيا. فيما يصعب على «غازبروم» العيش على المدى القريب وربما المتوسط، من دون السوق الأوروبية التي تدر عليها قرابة نصف عائداتها. لكن واضح أن أوروبا لن تتخلى عن هدف إزاحة عصا الكرملين الغليظة عبر تقليص اعتمادها على الغاز الروسي، وإيجاد بدائل كافية. في حين ينتظر أن يتعزز توجه «غازبروم» إلى أسواق جديدة في الصين وجنوب شرق آسيا.