سمر بوشبل
شبّه الشاعر الفرنسي”ألفونس دو لامارتين” بيت شباب بـ”حبوب الرمّانة المفتّحة” نظراً لكثرة بيوت القرميد فيها. وبيت شباب، قلب المتن الشمالي، على ما يقال فيها، تتميز بصناعات فريدة لاسيما صناعة الفخار و”الديما” (النسيج) والأجراس. وليس مستغرباً أن تصدّر قرية تحمل في إسمها معنى “بيت الجار”، الأجراس إلى جيرانها في القرى المجاورة، لا بل إلى أقاصي المسكونة. ولتبيان أسرار صناعة الأجراس، زارت “المدن” محترف “نفّاع نفّاع” في قرية بيت شباب، المعمل الوحيد لصناعة الأجراس في الشرق الأوسط.
“نَفَع يوسف”
تعود صناعة الأجراس في بيت شباب إلى العام 1700، ويُروى أن عالماً روسيّاً جاء إلى لبنان لصنع جرس كنيسة مار عبدا في بكفيا، وإستدعى هذا الأخير عامل الحدادة يوسف غبريل من بيت شباب لمساعدته في تركيب الجرس. تحمّس يوسف لصناعة الأجراس، فسافر إلى روسيا حيث تعلم أسرار هذه الصناعة، ليعود بعدها إلى قريته ويجمع العائلة ويصبّ أول جرس. قال أفراد العائلة عندها “نَفَع يوسف”، أي أنّ هناك فائدة من ذهابه إلى روسيا، وأُطلقت حينها كنية “نفّاع” على العائلة التي يتوارث أبناؤها صناعة الأجراس جيلاً بعد جيل. وقد كانت بيت شباب تضمّ 20 مصنعاً لصبّ الأجراس، وبعد الحرب العالمية الثانية، لم يبق منها سوى اثنين، أمّا اليوم فهناك محترف واحد يملكه نفّاع نفّاع. ويقول إبنه يوسف (10 سنوات)، لـ “المدن” بحماسة لافتة: “هناك معامل لصناعة الجرس في روسيا وفرنسا وإنكلترا… لكن لا يوجد سوى معملنا في الشرق الأوسط يصنع الأجراس. أنا وأخي شربل (8 سنوات)، نرّكز على تحصيلنا العلمي اليوم، لكننا نعرف كل مراحل صناعة الجرس وسنحرص عندما نكبر على إستمرارية المحترف”.
سرّ الأجراس
يصنع الجرس على ثلاث مراحل تمتد 20 يوماً كحد أقصى: يتمّ في المرحلة الأولة، التي تستغرق أسبوعين، صنع القالب من مزج تربة “الحوّارة” مع شعر الماعز والمياه، ليُجمع في المرحلة الثانية القالب المؤلف من شقين، داخلي وخارجي، ويوضع أمام الفرن لصبّ معدن الجرس فيه. يتكوّن معدن الأجراس من خليط: 77 % من النحاس و23 % من القصدير، ويجري تذويب المادتين في فرن على حرارة 1800 درجة لمدة 6 ساعات. ثم يسكب المعدن المنصهر، أي البرونز في الفراغ بين القالبين عبر سكة تصله بالفرن. وفي المرحلة الثالثة، يُترك الجرس حتى يبرد ويتماسك لمدة ساعتين، ثمّ يتمّ كسر القالب لسحب الجرس وتنظيفه. تُسخدم الأجراس في “ديكور” المنازل والقصور، لكن غالباً ما يتمّ إستخدامها في الكنائس خصوصاً الأجراس التي تزن 300 كيلوغرام وما فوق.
يقول جيرار نفاع أحد حرفيي محترف نفّاع لـ”المدن”: “زبائننا ليسوا لبنانيين فحسب بل ثمة زبائن يقصدون محترفنا من فرنسا، أستراليا، أميركا الجنوبية، أفريقيا والبلدان العربية. ونصدّر 40% من إنتاجنا، واللافت أننا مقصودون من بعض البلدان التي تصنع الأجراس، كون صوت أجراسنا فريداً في العالم، علماً أننا تعلمنا هذه الصنعة في الخارج لكن أجدادنا حسّنوا صوت الأجراس”.
يضيف: “زارنا الصيف المنصرم مندوب عن شركة الرينغلز الإنكليزية لمعرفة سر صوت أجراسنا، إذ يرتبط صوت الجرس ارتباطاً وثيقاً بخلطة النحاس والقصدير المكونين للبرونز”.
أمّا عن سعر الأجراس فيقول جيرار: “يختلف سعر الجرس بحسب وزنه، وتتراوح أوزان الأجراس بين 2 و600 كيلوغرام، ويبلغ سعر كيلوغرام الجرس 40 دولاراً، إلا أن نسبة الربح الصافي العائدة لنا تبلغ 20% من السعر الإجمالي، فكلفة الجرس تتضمن إضافة إلى أجور العمال، كلفة المواد الأولية كالمازوت لتشغيل الفرن، والحطب المستخدم لتدفئة القوالب كي لا تتشقق، وكلفة معدني القصدير والنحاس الخام اللذين يتغيّر سعرهما وفق البورصة”.
لا شك في أنّ الجيل الحالي من عائلة نفّاع حافظ على أصالة الأجراس التقليدية ونوعية صوتها، إلا أنّه أيضاً تمكّن من تطوير هذه الصناعة عبر صناعة الأجراس الكهربائية، إضافة إلى إستحداث أجراس بـ”دقّة” حزينة وأخرى بـ”دقّة” الفرح. وبدأت العائلة مؤخراً تركيب أجراس مجهزة بتقنية التحكم عن بعد.
وأمام هذه الصناعة الفريدة في الشرق، تتوجه الأنظار إلى وزارات الصناعة والثقافة والسياحة لدعم هذه الصناعة من خلال إقامة معرض تراثي لتعريف اللبنانيين والسياح العرب والأجانب بها.