Site icon IMLebanon

هجرة العقول وانعكاساتها الاقتصادية


ماجد منيمنة

تقدر الدراسات والأبحاث الأخيرة أن عشرين ألف عربي من العلماء والأطباء والمهندسين والفنيين ذوي المهارات العالية يهاجرون سنوياً إلى الغرب، نصفهم يهاجر إلى الولايات المتحدة. ويقدر عدد العلماء العرب الذين استقطبتهم الولايات المتحدة الأميركية منذ العام 1977 بمليون عالم متفوق، أي أن حوالى مليون ونصف المليون عالم عربي يعيشون في الغرب، وتشير الإحصائيات إلى أن 67 % من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى وطنهم الأم. وتقدر تكلفة الطالب الجامعي المهاجر الى الغرب والذي قد أنهى دراسته الثانوية والجامعية في وطنه الأم من حسابه الخاص أو على نفقة دولته بمئتي ألف دولار أميركي للفرد الواحد.
وبالطبع، فإن للهجرة حسناتها الكثيرة، ولكنها يغلب عليها في نتائجها وتأثيراتها خسارة كبرى لا تعوض للتنمية والتقدم في الوطن العربي. كما تؤكد الدراسات أن الهجرة ارتبطت بالإحتلال والإستبداد والفقر والتخلف، وبالطبع فإن الظروف الجاذبة في الغرب من الفرص والعدالة والتقدم تستقطب الكفاءات العربية. ويبقى السؤال لماذا نجحت دول نامية في اجتذاب علمائها وفنييها من ذوي المهارات العالية في حين فشلت الدول العربية في ذلك؟
تصل نسبة الباحثين والعلماء في الولايات المتحدة الأميركية إلى 3700 لكل مليون مواطن، وفي اليابان 6000 عالم وباحث، وفي بريطانيا 5600، بينما لا تتعدى هذه النسبة 300 عالم وباحث لكل مليون مواطن عربي، وتقدر الدراسات أن البيئة المشجعة للعلم والإبداع والمواهب يجب أن تتوافر بحدود 1500 عالم وباحث على الأقل لكل مليون مواطن.
لقد أثبتت الدراسات أن 90% من زيادة النمو الإقتصادي في الدول المتقدمة يرجع الفضل في تحقيقها إلى التقدم العلمي والتقني، كما أن 50% من الزيادة في حصة الفرد من الدخل القومي تعود للأسباب ذاتها، ولذلك فإن الدول المتقدمة تستحوذ على 95% من العلماء في العالم، وتستحوذ أيضاً على النسبة ذاتها من البحث العلمي، وعلى 97% من براءات الإختراع في العالم، في حين أن عدد سكان هذه الدول لا يتجاوز 12% من عدد سكان العالم، وتستحوذ أيضاً على 64 % من الدخل القومي العالمي.
وتُعتبر تجربة الهند مثالاً يُحتذى في توظيف العقول الهندية سواء في الهند أو في الخارج، واستطاعت الهند أن تحقق دخلاً سنوياً يزيد على 12 بليون دولار من برمجيات الكومبيوتر فقط، بعد أن طبقت تجربة ناجحة ومبتكرة مكنتها من تعليم الأطفال والنساء على استخدام الكمبيوتر من خلال توفيره في القرى والبيوت والمدارس والمراكز التعليمية العامة وعلى نطاق واسع وشامل، واجتذبت العقول المهاجرة بعد أن هيأت لها المناخ العلمي المناسب, كما استرجعت نسبة كبيرة من العلماء الذين هاجروا الى خارج حدودها في يوم من الأيام.
كما أن العلماء العرب المهاجرين يقدمون للولايات المتحدة الأميركية دخلاً لا يقل عن 40 بليون دولار سنوياً، وهو ما يعادل نصف دخل الوطن العربي من النفط، ولا شك أنها قضية قومية وإقتصادية تستحق العمل الجاد والحقيقي لإستيعابها وتوظيفها. ولا مجال لإستعادة هذه الكفاءات سوى بإنشاء بيئة من الحريات العامة والأكاديمية العلمية وإقامة مشاريع إنمائية كبرى، وتطوير الجامعات ومراكز البحوث والدراسات والمستشفيات والشركات والمصانع والمشاريع المتقدمة التي تستوعب الكفاءات العلمية وتوظفها، والنظر في أسباب الهجرة لمعالجتها.
وهناك فئة أخرى من العقول العربية المهاجرة، وهم رجال الأعمال والمستثمرون، الذين رفضوا العودة إلى بلدهم الأم، لأسباب تتعلق بالحروب وتخلُّف البيئة والتشريعات الإستثمارية والأسواق، وفي كثير من الأحيان بسبب السياسات الإقتصادية والتنظيمية غير العادلة، ومن أهمها بالطبع الإحتكار وغياب المنافسة العادلة في الفرص الإقتصادية والتجارية وتسلط ذوي النفوذ على الإقتصاد، والفساد والرشاوى، والأنظمة الإدارية غير المتطورة، وسياسات التنفيع للمحسوبيات وغياب الأمن والإستقرار والعدالة وضعف المؤسسات القضائية وعدم إستقلاليتها.
كما أن هنالك دوافع فردية في البحث عن الأفضل والإعجاب بالغرب والتطلع لأسلوب حياة مختلف، ولكن يجب عدم إغفال الظروف الطاردة للمواطنين والكفاءات، مثل انخفاض مستوى الدخل وتدني مستوى المعيشة، وضعف وفساد المؤسسات الرسمية والتعليمية والصحية وأنظمة الرعاية الإجتماعية، والإحباط العلمي والمهني بسبب عدم توفر إمكانيات البحث العلمي من الكتب والمجلات والمعدات والأجهزة والمؤسسات، وغياب أو تدني حرية الفكر والأسلوب العلمي لإدارة المجتمع.
ويجب ألا نغفل عوامل أخرى أيضاً، مثل ضعف الإنتماء الوطني والثقافي وضعف علاقات الإنتماء كالزيارات العلمية والشخصية للكفاءات المهاجرة لتبقى على الأقل على صلة بوطنها ومجتمعاتها الأم، وقد أكدت الدراسات أن عامل الدخل ليس هو الحاسم في قرار الهجرة، بل أن بعض المهاجرين قد خسر إقتصادياً ومالياً بسبب هجرته لوطنه، لكن الأسباب السياسية والثقافية والإجتماعية قد تكون هي الأكثر أهمية وحسماً في هذا الخيار.
لقد فشلت الدول العربية في مشروع التنمية الشاملة والمتوازنة، بل أنها تفضل التعاون مع الكفاءات والشركات الأجنبية بالرغم من توافر مثلها أو أحياناً أفضل منها محلياً وعربياً، ولقد فشلت الدول العربية في التنسيق والتعاون في ما بينها، وباستمرار النزف من الحروب والأمن المفقود الذي يزيد من وتيرة الهجرة المستدامة.
ولإيجاد حلول جذرية لمشكلة الهجرة، لا بد من السعي نحو زيادة التعاون وتنسيق الجهود لإحصاء الكفاءات العربية في الخارج، وتدوينها وصولاً للتعرف إلى أوجه الخلل والقصور، بما في ذلك تصحيح مكامن الخلل الهيكلي والعمل بكل السبل لتفعيل الأثر التنموي للهجرة وتعزيز الدور الإيجابي في الهدف والمردود، من خلال دمجها كمكون رئيسي في الإستراتيجيات الوطنية للنمو الإقتصادي، وضرورة المشاركة المتوازنة في ما بينها لإيجاد بيئة إقتصادية مؤاتية.
ولا بد من التركيز على رسم سياسات إقتصادية دولية وإقليمية للهجرة، قابلة للتنفيذ لتعزيز الفائدة من مردود الهجرة كتطبيق سياسات وحوافز إقتصادية وطنية، سواء في الدول المصدرة للهجرة أو المستقبلة لها لتشجيع المهاجرين على استثمار تحويلاتهم في أوطانهم الأصلية فتتحقق الإستفادة التنموية لجميع الأطراف بخاصة في ظل تسارع المنافسة التي يشهدها العالم لتوظيف أصحاب الكفاءات لخدمة بلادهم. لذا نلفت أنه لا بد أيضاً من الإنفاق على البحث العلمي الذي ينمي بدوره مهارات أصحاب الكفاءات ويوفر لهم فرص التنافس في الأسواق المحلية ويقضي على ظاهرة هجرة العقول الموهوبة.