طوني رزق
بات العالم المعاصر أشبَه بغرفة صغيرة تتقاسَمها العائلة مع جَملٍ كبير يُمثّل الثراء الفاحش، وبات من الملِحّ إيجاد طرُق لإعادة توزيع الثروات ولعدالة ضريبية أكثر شمولية. المطلوب تحسين مستوى الأجور وإيجاد قوانين «فاتكا» في مختلف الدوَل، شأن قانون فاتكا الأميركي.
إنقسَم العالم في الزمن المعاصر بين فريقين: الاوّل هو عالم الثراء، والثاني العالم المثقَل بالديون وعلى شفير الإفلاس. وبات الثراء أكثر إزعاجاً للطبقات الوسطى والفقيرة. وشبَّه مفكّرون عالميون كبار ذلك بالعيش مع جَمل كبير داخلَ غرفة صغيرة واحدة. فضاقَ المكان على الجَمل وارتعبَ الفقراء من وجود الجَمل وهم يعيشون تداعيات أيّ تحرّك له داخل الغرفة.
ومِن أبرز مخاطر هذا الثراء تشويه المبادئ الديمقراطية التي يتغنّى بها العالم الحديث. فضخامة المال الكبير باتت تأسُر وتشتري وتشلّ حرّية الرأي في أوساط كبار المفكّرين وتكمُّ الانتقاداتِ وفضحَ الأخطاء وتشتري الأدمغة وتوَجّهها.
فالأثرياء الكبار، أكانوا أفراداً أو شركات عالمية ضخمة تسعى لحماية نفسِها مِن أيّ تهديد. حتى في الاجتماعات الدينية التي يحضرها المتبرّعون الكبار هناك حِرص على عدم الحديث عن اتّساع هوّة عدم المساواة خوفاً من خسارة كرَم الأثرياء.
وحتى في الجامعات الكبرى في العالم حيث يجب أن تُعطى الأولوية للآراء الأكاديمية الحرّة والموضوعية مُنِع أحد كبار المحاضرين مِن توجيه بعض الانتقادات لبورصة وول ستريت نتيجة الحِرص على عدم إزعاج عدد من الداعمين الماليين وهُم مِن كبار المستثمرين في البورصة المذكورة.
حتى الجمعيات الخيرية التي لا تستهدف تحقيقَ الأرباح رفضَت الاشتراك في حملات ضد الثراء خوفاً من خسارة دعم المتبرّعين الكبار. وبات من السيّئ جداً تكرار عمليات شراء مؤسسات مدنية رسالتُها البحث وجمعُ المعلومات وتقديم الاقتراحات للتغيير والتطوير الاجتماعي. ويصبح الأمر أكثرَ خطورةً مع انسحاب الحكومات من تمويل هذه المؤسسات وتركِها تلجَأ إلى أحضان الثراء الفاحش.
في زمن الركود الاقتصادي الذي يَطال غالبية الدوَل في مختلف أنحاء العالم ما زال الاقتصاديّون يبحثون عن حلولٍ لدعم النموّ وتحسين مستوى العيش. ومع ابتكار الولايات المتحدة الاميركية أجواءَ ضَخّ السيولة بالتريليونات في الاسواق الماليّة لحقَ بها الكثير مِن الدوَل الأخرى، حتى تلك التي كانت الاكثر تردّداً وشكوكاً في جدوى هذه السياسة النقدية الجريئة الجديدة.
غير أنّ الفكر الاقتصادي الذي ينطلق من إعادة توزيع الثرَوات من خلال تحقيق زيادات في الأجور وفي التقديمات الاجتماعية وفي سياسات ضريبية أكثر عدالة، ما زال مغَيّباً بشكل شِبه كامل عن طاولة البحث عن الحلول المعاصرة.
وكانت الولايات المتحدة الاميركية وفي المقلب الآخر قد رصدَت هروبَ الاموال الكبيرة من قبضة مصلحة الضرائب. فأوجدَت قانونَ «فاتكا» الذي يلاحق أموال الاميركيين أينما ذهبَت على وجهِ الكرة الارضية، وألزَم بقيّة الدوَل على التعاون معها. فهل تبادِر الدوَل الأخرى على القيام بذلك؟
والسؤال هو ما الذي يجعَلها متخَلّفةً عن الولايات المتحدة الاميركية في هذا الشأن. فالمطلوب قانون فاتكا لبناني وأوروبّي وصيني وروسي وهندي وياباني… وذلك لإرساء عدالة ضريبية أكثر شمولية، وللحَدّ مِن النموّ المبالَغ فيه للثروات الفاحشة وتأثيرها السيّئ على المجتمعات العالمية.
الإصلاحات الأساسية
إزاءَ معاناة العالم مِن تأخّر الانتعاش الاقتصادي وضعفِ النموّ باتَ البحث عن الإصلاحات الجذرية على المستوى الاقتصادي والمالي في أعلى الاولويات على طاولة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
ومِن أبرز الاقتراحات على هذا المستوى:
أوّلاً: تحسين مستوى الإنتاجية، الأمر الذي يؤدّي إلى تحسين مستوى الأجور وزيادة عدد فرَص العمل المتوافرة، وبالتالي تخفيض نسبة البطالة وزيادة الاندماج في المجتمعات. والتجربة الألمانية تصلح للعبرة. إذ بينَ العامين 2003 و2005 خفّضَت الدولة الضرائب على الأجور والتقديمات للعاطلين عن العمل ودعَمَت العمّال في شروط العمل للتقليل من خسارة الوظائف وعملَت على خلقِ وظائف صغيرة لرفعِ عدد فرَص العمل. فتراجعَت نسبة البطالة في ألمانيا من 12 في المئة في 2005 إلى 5 في المئة في 2014.
ثانياً: إعتماد الحلول الأسرع والأكثر بساطةً واستبعاد الحلول التي تتطلّب موافقةَ النقابات والأحزاب السياسية التي تتضمّن الكثيرَ مِن التعقيدات والمعوقات، مثل تحسين نوعية التعليم من خلال تدريب الأساتذة، وتحسين مستوى العناية الصحّية والتنظيم المدني وغيرها. فالأمور التي تستطيع الحكومة إقرارَها بلا معوقات هي الأكثر فعاليّة.
ثالثاً: عدمُ إغفال المبادئ الاقتصادية والمالية الأساسية، مثل اعتماد سياسات نقدية مناسبة، كتخفيض أسعار الفائدة أو حتى تخفيض سعر صَرف العمل. إذ إنّ ذلك يؤدّي إلى زيادة الطلب فتصبح الإصلاحات الأخرى أكثرَ قدرةً على التطبيق.
رابعاً: تقليص حجم الجَمل في الغرفة، وذلك مِن خلال تحسين مستوى الأجور، كما يتمّ ذلك من خلال اعتماد أساليب إعادة توزيع الثروات والمداخيل في المجتمعات. فإذا كان الناتج القومي العام يتساوى بين خفضِ الضرائب العالية أو تقديم مساهمات لبعض فئات المجتمع، فعلى الدولة اختيار الحَلّ الثاني.
خامساً: التشجيع على ولادة أجيال جديدة من أصحاب المشاريع، لا بلّ ولادة جيشٍ مِن هؤلاء الشباب، إذ إنّهم القوّة الديناميكية الخَلّاقة المستقبلية التي يُعوَّل عليها الكثير.