مكرم صادر (الأمين العام لجمعية المصارف في لبنان)
بمناسبة تعيين لجنة جديدة للرقابة على المصارف، أُثيرت مسائل عديدة تتعلّق بالرقابة المصرفية وأهميّتها للمهنة والصناعة المصرفية. وهذا صحيح! كما علا ضجيج فيه الكثير من المبالغة والقليل من الموضوعية. عادةً، يتذكّر الناس اللجنة كل خمس سنوات وقد تمَّ التداول كثيراً وخلال أشهر عدَّة بالأسماء والتعيينات، لكننا لم نقرأ مقالاً يتوقف عند مهام لجنة الرقابة على المصارف أو يتعرّض لما أنجزته اللجنة خلال ولايتها المنصرمة.
لعلّه من غير المفيد تعداد كل المذكّرات والتعاميم التي أصدرتها لجنة الرقابة على المصارف خلال فترة 2010 – 2015 وقد فاقت 19 تعميماً وسبعين مذكّرة موجّهة الى المصارف و/ أو المؤسسات المالية و/ أو مفوّضي المراقبة. ولكن، من المفيد التذكير بأهم مضامينها وقد غطَّت بشكل وافٍ خمسة ميادين هامة جداً وحيوية بالنسبة الى نشاط المصارف وأدائها. يعود أولها وأبسطها للتقارير الإحصائية والمعطيات التي تصرِّح عنها المصارف دورياً: أسبوعياً وشهرياً وفصلياً ونصف سنوياً وأخيراً سنوياً. وتتيح هذه التقارير متابعة ومراجعة حركة المصارف بشكل إجمالي للقطاع ككل أو إفرادياً لكل مصرف على حدة. كما أنها المدخل الى الرقابة الميدانية المباشرة. ويكمن ثاني الميادين التي تتناوله التعاميم والمذكّرات في ما يتعلّق بأنظمة الدفع والتسوية (الصرّاف الآلي، بطاقات الائتمان والوفاء، نماذج عمليات شحن الأوراق النقدية والمعادن الثمينة ألخ…) وكذلك حماية هذه الأدوات والأنظمة نظراً لأهميتها بالنسبة إلى الدورة الاقتصادية. ويعود ثالثها إلى كل ما يتعلّق بملاءة المصارف: احتساب نسبة الملاءة وفق متطلّبات بازل 2، التقييم الذاتي لكفاية رساميل المصارف (ICAAP)، علماً أن الملاءة وجوانبها المعقّدة هي ذات أهمية قصوى. ويتعلّق رابع الميادين بكل ما يمتّ للسيولة المصرفية بصلة، وقد باتت السيولة بعد الأزمة المالية العالمية معطىً يضاهي الملاءة أهميّةً.
أما خامس الميادين فيتمثل بالإقراض المصرفي في كل جوانبه بدءاً بالقروض للمؤسسات وكبار العملاء وقروض التجزئة، بما فيها محافظ قروض الإسكان وسائر القروض المدعومة وصولاً إلى التسهيلات المصرفية والأدوات المالية الممنوحة للاستعمالات المصدَّرة خارج لبنان، ومروراً بالتسهيلات الممنوحة لقاء رهن أسهم مصرف ومؤسسات مالية. ويرتبط بالتصريح عن القروض جانب آخر هام جداً يكمن في تكوين (أو تحرير) المؤونات مع كل التعقيدات في هذا المجال التي تنتج عن المعايير الدولية المطلوب الالتزام بها، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر قواعد المحاسبة الدولية (IFRS 9).
تتيح تعاميم ومذكّرات اللجنة رقابةً ميدانية أفضل On Site، وهي الأهم بما لا يُقاس، إذ باتت لجنة الرقابة تمتلك مناهج وأنظمة رقابة متطورة لهذا النوع من الرقابة. وأكثر من هذا وذاك، بات لديها جهاز بشري من الموظفين الأكفياء والكوادر المؤهّلة وذات الخبرة الواسعة ما يؤهّلها للتوجّه ميدانياً إلى المصارف وإجراء رقابة جدّية وكاملة بكل المقاييس العالمية، وضمن المبادئ الأساسية للرقابة المصرفية التي طوّرتها لجنة بازل وسائر السلطات الرقابية في العالم، وبخاصة الأوروبية والأميركية منها. وتمتدّ أعمال لجنة الرقابة على المصارف إلى ما وراء الحدود اللبنانية، إلى المؤسسات الشقيقة والتابعة وإلى فروع مصارفنا المنتشرة في أكثر من 30 بلداً. وتؤدّي هذه المهمة إما من خلال المعطيات المجمّعة التي توفّرها المصارف ومن خلال زيارة هذه الوحدات المصرفية في البلدان المعنيّة أو من خلال التعاون والتنسيق مع أجهزة الرقابة في الدول التي تنتشر فيها مصارفنا.
في موازاة هذا العرض الموجز لما تقوم به لجنة الرقابة على المصارف، لا بدَّ من التوقف وأيضاً بإيجاز عند تطور النشاط والأداء المصرفي خلال السنوات الخمس الماضية (2010 – 2014) من ولاية اللجنة السابقة. فالرقابة المصرفية تأخذ أهميتها، من جهةٍ، في حماية أموال المودعين وكفاية الرساميل والسيولة، ومن جهةٍ ثانية، في السهر على جعل المصارف توفر الحاجات التمويلية للمؤسّسات والأُسَر في البلد وللدولة كذلك.
على الرغم من الأزمات الداخلية والإقليمية المحيطة بعمل المصارف، استمرّ النشاط المصرفي معبَّراً عنه بإجمالي المطلوبات في تسجيل نمو قارب في السنوات الخمس (2010– 2014) 48 مليار دولار وبما نسبته 37 في المئة، ما يعني متوسطاً سنوياً يفوق الـ 7 في المئة. وتوزّعت الزيادة مناصفةً بين السيولة والاحتياطيات النقدية (23.3 مليار دولار) وبين التسليفات للقطاعين الخاص والعام (23.2 مليار دولار). ومن خلال هذه التوظيفات، تأمّنت للعملة الوطنية تغطية جيّدة بالعملات الأجنبية ومن ثمَّ مقوّمات الاستقرار. كما تؤمّن للاقتصاد الخاص تمويلاً كافياً وملائماً بكلفة فعلية قدرها 4 في المئة آخذين في الاعتبار معدّل التضخم الذي بلغ في المتوسط 3.2 في المئة، وهي تؤمّن أخيراً للدولة تمويلاً بشروط ميسَّرة مقارنةً مع مخاطرها السيادية. وللعلم، فقد ارتفعت مديونية الدولة في الفترة قيد الدرس من 53 مليار دولار إلى 67 ملياراً بينما ظلّت حصة المصارف منها بحدود 55 في المئة، أي زادت من 29 إلى 37 ملياراً. وطبعاً ساعد نمو الاقتصاد، من جهة، وبعض الضبط لتوسّع الدين العام، من جهة ثانية، في الحفاظ على معدّل دين عام إلى الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 137 في المئة.
ولم يترافق التمويل للاقتصاد بالأحجام والشروط الملائمة مع أية اختلالات على صعيد الاستثمار المصرفي. فالملاحظ أن بنية الموجودات شهدت خلال فترة 2010 – 2014 ارتفاعاً لحصة إقراض القطاع الخاص من إجمالي الموجودات من 23.5 في المئة إلى 25.7 في المئة وحافظت النسبة الموازية لإقراض القطاع العام على حصةٍ بحدود 23 في المئة. أما سيولة الموجودات بالعملات الأجنبية والليرة، الداخلية منها وفي الخارج، فقد بلغت حصتها النسبية من إجمالي الموجودات تباعاً 43.8 في المئة العام 2010 و 42.9 في المئة العام 2014 أي من دون تغيّر يُذكر. وفي جانب المطلوبات، حافظت ودائع الزبائن على حصةٍ راجحة تخطَّت 83 في المئة العام 2010 مقابل 82.2 في المئة مع نهاية العام 2014، بما فيها ودائع غير المقيمين التي ازدادت بشكلٍ ملحوظ من 17 إلى 30 ملياراً خلال الفترة المذكورة. وهكذا بقيت معدَّلات السيولة الإجمالية مقاسةً بالقروض للقطاعين إلى إجمالي الودائع عند مستوى مريح جداً لإدارة مخاطر البلد: 55.6 في المئة العام 2010 و 57.3 في المئة العام 2014. وكان طبيعياً في موازاة توسّع النشاط المصرفي أن تتوسّع الشبكة المصرفية مع ارتفاع عدد المصارف العاملة خلال فترة 2010 – 2014 من 64 مصرفاً عاملاً إلى 70، وازدياد عدد فروعها الداخلية من 912 إلى 1020 فرعاً والخارجية من 22 إلى 62 فرعاً. كما نمت القوى العاملة من 20.5 ألف موظف إلى 23.1 ألفاً وارتفع عدد أجهزة الصرّاف الآلي (ATM) من 1285 جهازاً إلى 1569.
واستكمالاً لهذه التطورات، نشير إلى كون قاعدة رساميل المصارف قد توسّعت بشكلٍ ملحوظ مما يزيد عن 9 مليارات دولار في العام 2010 إلى 15.7 مليار دولار مع نهاية العام 2014، أي أن معدل الملاءة الإجمالية ارتفع من 7.2 في المئة إلى 9.0 في المئة في الفترة المذكورة. وإذا احتُسبت الملاءة بمعيار بازل 2 لوجدناها عند مستوى أرفع، إذ راوحت بين 12.2 في المئة العام 2010 و 13.9 في المئة العام 2014.
ولم يؤثّر التوسّع في الإقراض على نوعية محافظ المصارف. فنسبة الديون المشكوك في تحصيلها إلى إجمالي القروض للقطاع الخاص تراجعت صافيةً من 3.90 في المئة إلى 3.59 في المئة بين عامَيْ 2010 و 2014. وتغطّي المصارف هذه الديون بالمؤونات بنسبة لا تقلّ عن 71 في المئة. وتنتج عن هذا النشاط المصرفي أرباح بحجم 1642 مليون دولار لعام 2010 وبحجم 1693 مليوناً لعام 2014. وتظلّ هذه الأرباح رغم تدنّي نسبتها الى الرساميل من 17.8 في المئة إلى 10.8 في المئة كافية، من جهة، لمواكبة توسّع المصارف، ومن جهة ثانية، لتوفير مردود مقبولٍ للمساهمين. وبينما تأخذ بعض الأوساط على المصارف حجم أرباحها، نرى أن ربحيّتها دليل على عافيتها وعلى سلامة العمل المصرفي.
وهكذا يمكن استخلاص مدى الدور الإيجابي الذي لعبته الرقابة المصرفية خلال السنوات الخمس الأخيرة في جعل الصناعة المصرفية في لبنان تزدهر، مع الحفاظ على سيولة مرتفعة وملاءة هي محلّ تقدير من الزبائن ومن المؤسّسات المالية الدولية رغم المخاطر السيادية التي تتوسّع في تفصيلها محقّةً وكالات التقويم والمؤسّسات المالية الدولية. إن هذا التأكيد على دور لجنة الرقابة على المصارف لا يقلّل بل على العكس يزيد من أدوار ومساهمات الأطراف الأخرى الفاعلة في معادلة الإدارة المصرفية، عنينا بها السلطات النقدية والرقابة الداخلية والرقابة الخارجية التي تتولاّها أفضل وأكبر مؤسّسات التدقيق العالمية، وأخيراً رقابة هيئة التحقيق الخاصة التي تسهر على إبقاء القطاع بعيداً عن عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وصدق من قال: «مصداقية مصارفنا من مصداقية أجهزة وأنظمة الرقابة المصرفية». ولا شك في أن اللجنة القائمة، مع ما أضيف إليها من كفاءات، ستكمل العمل من أجل قطاعٍ مصرفي سليم ومتطور.