Site icon IMLebanon

«سيدة المنطرة» و«ماء الزهر»: مهنة موسمية تجمع العائلات في مغدوشة

RoseWater
ثريا زعيتر

تفوح رائحة عطر زهر الليمون و«البوصفير» عن بُعد أمتار مع بدء فصل الربيع من كل عام لتعبق بمختلف أحياء البلدة امتداداً لأشجار التي تغطي المساحة الأكبر في «سيدة المنطرة» مغدوشة – قضاء صيدا، لتتجدد معه حكايات وحكايات القطاف من عام إلى عام…
فأبناء بلدة مغدوشة ما زالوا يحاولون التمسّك بأرضهم… وعدم اقتلاع أشجارهم ونسيان عاداتهم برحلة تقطير ماء الزهر من بساتينهم في البلدة، حيث يُقطف الزهر ويغربل وينقّى، وينقل إلى مركز البيع، كما يُفرز ويقسّم وما يبقى منه في نهاية القطاف ينقل إلى البيوت لكي تتم عملية تقطير ماء الزهر في «كركة» المشهورة والتي تجدها في غالبية منازل مغدوشة…
على طول الطريق الممتدة في البلدة، تستنشق رائحة الزهر وكلما هبَّ الهواء تفوح أكثر… في الحقول خلية نحل لا تهدأ… تعمل على قطاف الزهر، الكل يشارك، الصغير قبل الكبير لأن هذه المهنة ورثوها أباًً عن جد وتتحوّل في هذا الموسم إلى مصدر للرزق والعيش، إذ تعتبر موسمية ينتظرها محترفوها من عام إلى آخر بفارغ الصبر، ليشكّل مصدر رزق لهم…
«لـواء صيدا والجنوب»، كعادته في كل عام، حطّ رحاله في بلدة مغدوشة، مواكباً رحلة تقطير «زهر الليمون» و«البوصفير»…

رائحة… وقطاف
تنتج بلدة مغدوشة ماء الزهر حوالى ما بين 80 و100 طن سنوياً، حيث يكون المصدر الأساسي لمعيشتهم ويقوم المزارعون بـ «ضمان» أشجار «البوصفير» كل موسم، ويبدأ موسم قطاف زهر الليمون في الثلث الأول من شهر آذار، ويستمر حتى نهاية نيسان وتتشارك كل أفراد العائلة في عملية القطف، ذلك توفير لليد العاملة خاصة في هذه الأوضاع الاقتصادية التي نمر بها ولكي يتقرّبوا من بعضهم البعض أكثر.
{ عندما تدخل إلى بلدة مغدوشة، تعبق رائحة الزهر وحباته البيضاء مثل اللؤلؤ… على امتداد المساحات أشجار وتحتها أفرشة وخلية نحل تعمل ولا تهدأ، حيث تقف «أم جورج» على السلم الخشبي وهي تغني فرحاً وتقول: «أجمل أيام حياتي عندما أقطف الزهر فرائحته يردُّ الروح لي… منذ طفولتي كنت أساعد أهلي على القطاف وأنا اعشق هذه اللحظات، لقد علّموني أهلي أن أحب الأرض ولا نقلع الأشجار، لأنها امتداد لنا في الحياة مثل الأولاد».
تتابع وهي مبتسمة: «لقد علّمت أولادي معنى حب الأرض والقطاف، وكل موسم الزهر تحضر جميع العائلة ونتشارك في الأكل والشرب ونتقرّب إلى بعضنا أكثر تحت الشجرة، فعندما ننتهى من القطاف نقوم بفرز الزهر لتبدأ مرحلة التقطير لاحقاً».
وتعتمد مرحلة التقطير، على «الكركة» الصغيرة حيث تتسع بين 5-8 كلغ من الزهر، فبعض أمهات البلدة ما زلن يشعلن الحطب تحتها، والبعض الآخر يعمدن إلى وضعها على الغاز، بحيث يُوضع الزهر داخل «الكركة» ويُغمر بالماء، ثم يُقفل عليه بالقسم العلوي من «الكركة» الذي توضع فيه المياه الباردة، ويجري «تطيين» الوصلة بواسطة الرماد أو الطحين المجبول بالماء، منعاً للتبخر في اتجاه الخارج، ويُمكن تقوية النار في بداية «النزل».
وتؤكد «أم جورج» بالقول: «عندما تبدأ قطرات الماء تخرج من أنبوب متصل بـ «الكركة»، فمعنى ذلك أن الزهر بدأ يتحوّل إلى بخار، فماء، عندها ينبغي تخفيف النار إلى أقصى حدٍ، بحيث تنزل القطرات قطرة قطرة، على أن المطلوب الانتباه بشكل دائم إلى تغيير الماء في القسم العلوي كلما فَتَر، واستبدال الماء البارد الذي يلعب الدور الأساسي في تحويل البخار الداخلي إلى ماء الزهر وتتطلب عملية التقطير 6 ساعات، من الغلي إلى البخار، ولا فرق في حجم «الكركة» سواء كانت كبيرة أم صغيرة».
تقطير… ومهنة
{ وحال «أم جورج» كحال العشرات من نساء البلدة، إذ تقول «أم حبيب»: «لديّ أرض مزروعة كلها تقريباً بشجر بوصفير، وأقوم بقطافها كل عام مع العائلة فقررت فتح محل صغير لبيع «ماء الزهر» وذلك في أول البلدة، وهذه المهنة سهلة جداً ولا تحتاج إلا لخبرة ونظافة».
وتضيف: منذ طفولتي وأنا اعمل في هذه المهنة لقد عشقتها وأبدعت في صنعها، فأصبحت أصنع كل ما يتعلق بالمنتوجات «البيتية» مثل: شراب الورد، بوصفير، التوت، النعنع، دبس الرمان، خل التفاح، خل العنب، مربيات التين، سفرجل، اللقطين، المكدوس، الكبيس، الصابون البلدي وزيت الزيتون، ولكن يبقى «ماء الزهر» الأفضل».
وتختم: «بلدة مغدوشة اشتهرت في صناعته، وكل كلغ واحد من زهر «البوصفير» يقطر قارورة واحدة من «ماء الزهر»، ثم تعبأ القطرات في قوارير متوسطة، ويُحكَم إغلاقها منعاً لتسرّب الرائحة، ثم تعرض للبيع بمبلغ 15 ألف ليرة لبنانية».
تراث… وورث
{ بينما تقف أنطوانيت غانم مبتسمة وهي تقطف الزهر من على الشجرة مع عائلتها، وتقول: «إن بلدة مغدوشة تتحوّل في فصل الربيع إلى عاصمة زهر «البوصفير» و«ماء الزهر» فتحضر معها الفرحة، كأنه عيد خاص بالبلدة، فهذه الأرض لي ولعائلتي وقد ورثتها عن أجدادنا وبعض الأشجار يزيد عمرها عن 150 عاماً، وكذلك يؤمّن لليد العاملة العمل في كل موسم، لأن الشجرة تقطف مرتين أو أربع مرات في الموسم بحسب الطقس، وتقطف الحبة المستطيلة أولاً أو الشامطة، على أن تقطف الحبات الأصغر في القطاف الثاني أو الثالث أو الرابع، ويُفضّل أن لا يتعدّى تفتّح الزهرة 15% حتى لا يتعارض نضوجها مع رائحتها الزكية… ولكن هذا العام الموسم ضعيف قليلاً بسبب الطقس العاطل والماطر».
بالمقابل، يقعد «أبو جورج» على الأرض وهو منهمكاً في جمع زهر الليمون من بستانه، يضع على رأسه قبعة من القش ويقول: «لقد ورثت هذه المهنة عن والدي وجدي، وما زلت أحافظ عليها فأنا أعتاش منها، وبنفس الوقت أحس براحة جسدية ونفسية تحت الشجرة عندما أتنشق رائحتها الزكية، لذلك لا أفرّط بهذه الأشجار أبداً، لأنها كل حياتي».
ويضيف: «عندما ننتهي من القطاف، أقوم مع عائلتي بفرز الزهر ونبدأ عملية التقطير، ما زلت استعمل «الكركة» القديمة كتراث للبلدة، فهذه المهنة تحتاج إلى خبرة وصبر، ولا يوجد فرق بين المعدات الحديثة والقديمة، إلا إنني أحاول أن أحافظ عليها كتراث، الأولى لا تؤثر على النوعية والجودة، والثانية ما دامت «الكركة» جيدة ومن النوعية المضبوطة والنحاس أفضل بكثير من الرصاص، على أن الأهم يتمثل في نوعية حبة الزهر كلما كانت كبيرة وناضجة كلما كانت أفضل وأطيب».
نكهة… وعلاج
ما يلفت الانتباه «أم إيليا»، التي ما زالت تنزل إلى الأرض رغم كبر عمرها، تقول: «طول ما أنا قادرة أمشي لن أتوقف عن العمل في قطف الزهر ولا أفكر باعتزال المهنة فهي تراثية، وهي أيضاً مكسب قوت عيشي.. فمنذ طفولتي علمتني أمي أن أنزل معها إلى الأرض واستمتع بقطف الزهر والآن انتظر الموسم بفارغ الصبر لأن كل حكاياتي وإسراري مع هذه الأشجار، فنحن في البلدة مشهورين بصناعة «ماء الزهر» ومحترفين بتقطيره، كل لبنان والعالم العربي يقدنا لكي يشتري منتوجاتنا، إننا نقطره على أصوله».
وتضيف «أم إيليا»: «نحن النساء في البلدة ننتظر قدوم هذا الموسم بفرح، فالجميع يعمل في المنازل خلال عملية التقطير وصناعة «ماء الزهر» الذي يمكن الإستغناء عن بعض الكماليات إلا عنه، لأن استعمالاتها كثيرة في صنع الحلويات العربية لمنحها نكهة خاصة، وأيضاً لتحضير «القهوة البيضاء» بدلاً من القهوة التقليدية، ولوجع البطن، تحديداً لدى الأطفال والكبار».