ادهم جابر
“أعلنوها ثورة”.. لم تعد مجرد صرخة. هكذا رسم المستأجرون القدامى الخطوط العريضة لقضية، لم تعد محصورة بمجرد الحفاظ على المكان الذين عاشوا وأنجبوا أولادهم فيه. القضية صارت بحجم وطن عندما اتخذت مسار الثورة ضد “النظام السياسي” و”نواب الأمة اللاشرعيين”، وقانون الإيجارات التهجيري الذي سنه “حيتان المال” بالتنسيق مع بعض النواب.
على حافة رصيف في البربير، وعلى وقع الأغاني الثورية، تجمهر العشرات من المستأجرين القدامى. أحضروا بعض أبنائهم معهم. وقفوا مع لافتاتهم المنددة بقانون الإيجارات الجديد، أحضروا مكبرات للصوت. زادوا عددها ليعلو الصوت، ويصل إلى كل الآذان التي صمت عن الاستماع إلى مطالبهم. دقائق قليلة رددوا فيها بحناجر موحدة، كل أنواع الهتافات. وحدهما النائبان روبير غانم وسمير الجسر كان لهما النصيب الأكبر من الانتقادات، ساق المستأجرون بحقهما اتهامات كثيرة. أما بقية النواب فكان لهم نصيبهم أيضا، لكن بدرجة أقل، مع إجماع من المتظاهرين بأن هؤلاء النواب “هم غير شرعيين وبالتالي لا يمكن لأي قانون أن يصدر من خلالهم أن يكون شرعيا”.
بدا لافتا للانتباه، أن معظم الذين جاؤوا إلى نقطة انطلاق المسيرة التي أعد لها بعناية، وفق خط سير من منطقة البربير إلى ساحة رياض الصلح في وسط بيروت، هم رجال ونساء تجاوزت أعمارهم الخمسين عاما بغالبيتهم. مسنون جاؤوا، رغم أوجاعهم وأمراضهم، للمشاركة في المسيرة، تعبيرا عن تمسكهم بمنازلهم الحافلة بذكرياتهم السعيدة والحزينة. في عيونهم خوف من التشرد بعد كبر، تطفو على وجوههم ملامح القهر، فهم منذ شهور في الشارع، يعتصمون ويتظاهرون، يصرخون ويهتفون، لكن قضيتهم تراوح مكانها بين مد المعنيين وجزر المالكين. هكذا ولد لديهم الخوف من مستقبل باتوا أكثر اقتناعا اليوم، بأنه قد يكون خيمة على قارعة طريق.
بخطى ثقيلة سار الجميع. مشى قادة الحراك في الصف الأول متكاتفين، أرادوا بذلك أن تكون الرسالة دالة، على أنه لا انقسام ولا فرقة بين أبناء القضية الواحدة. رغبوا بتوجيه الرسالة في أكثر من اتجاه، للمالكين “الذين لا يشبعون”، وللمعنيين “الذين لا يكترثون”.
ارتفعت اللافتات في الهواء. كتب على إحداها “إنذارات المالكين مرفوضة ولا قيمة لها لأن قانون التهجير معطل وغير قابل للتطبيق”، فيما كتب على أخرى: “نطالب بخطط سكنية وقانون عادل للإيجارات يحمي المستأجر”. أما الهتافات فاختلفت لكنها كانت موجهة بمعظمها ضد غانم والجسر. ” يا غانم سماع سماع، حق السكن ما بينباع” ، و “يا جسر سماع سماع عن قانونك يلا رجاع”، “قانونك ما بيطبق ووعودك ما بتتصدق”، “يلي حررتو العقود وين هوي السكن الموعود”، “وين الخطة السكنية”، “المصارف والشركات سرقوا كل التعويضات”.
“لا لرمي الناس في الشارع وهم على حافة قبورهم”
في الطريق من البربير إلى وسط بيروت، سار المتظاهرون في شارع الأوزاعي (سوق الذهب)، ثم عبروا البسطتين التحتا والفوقا وصولا إلى الباشورة فساحة رياض الصلح. تجمع أصحاب المحلات التجارية على جانبي الطريق، فيما كان أصحاب المنازل المنتشرة على ضفتي الشارع، يراقبون المسيرة من نوافذهم مبتسمين، لاحظ أحد المتظاهرين ذلك فانتزع “الميكروفون” وتوجه إلى المراقبين قائلاً: “اليوم دورنا وغداً دوركم. أعدوا العدة فقد تجدون أنفسكم يوماً في مكاننا”.
“نحنا مشحرين”، بهذه العبارة وصف كاسترو عبدالله حال المستأجرين القدامى، مؤكداً بما لا يقبل الشك بأن “التعديلات على قانون الإيجارات مرفوضة ومجحفة”، شارحاً بأنه “لم يتم الأخذ بالتعديلات التي طرحها أكثر من نائب”.
وفي دردشة، مع “السفير” خلال التظاهرة، شن عبدالله هجوماً على غانم، مشيراً إلى أن ما قاله الأخير “غير منطقي، ولا يتمتع بأي حس للمسؤولية، لأنه يضع الناس في مقابل بعضها البعض”. يضيف: “الكلام شيء والفعل شيء، وعلى هذا فالتعديلات التي تمت مجحفة ولا يمكن صرفها في قاموس المستأجرين”، مشددا على أن النائبين غانم والجسر “أخذا على عاتقهما تهجير الناس، وعليهم تحمل المسؤولية”.
وردا على سؤال عن ذنب المالكين في كل ما يجري، قال عبدالله: “لا ذنب لهم، ولا ذنب لنا أيضا. لكن لا بد من الإشارة إلى أن المالك مستثمر وهو نال (خلوّات)، وبالتالي على الدولة أن تتحمل المسؤولية، لا أن تقوم برمي الناس في الشارع وهم على حافة قبورهم”.
وبنبرة تصعيدية يؤكد عبدالله أن المستأجرين “في حالة غضب وشجب واستنكار. قبلنا بما طرحه رئيس مجلس النواب نبيه بري مكرهين، لكننا سنستمر بالتحرك لأننا نريد حلاً جذرياً للقضية، ونراه عبر الخطة السكنية وخروج المستأجر من بيت إلى بيت لا إلى الشارع”.
“القانون الأسود” يخدم الشركات العقارية
في ساحة رياض الصلح تناوب المستأجرون على الكلام، إذ شدد عضو لجنة المتابعة زكي طه، على أن “القانون الأسود يخدم الشركات العقارية والمصارف ويسعى إلى التهجير، فمن لم يتهجر من الحرب الأهلية يهجره هذا القانون الظالم لمعظم الفقراء الذين يدفعون الضرائب للدولة، ونطالب الرئيس بري بسحب هذا القانون من مجلس النواب”.
أما أديب زخور، فأشار باسم لجنة المحامين إلى أن “هذا القانون غير قابل للتطبيق لأن المجلس الدستوري أبطله، وهذا الأمر أكد عليه وزير العدل ورئيس المجلس الدستوري”.
ليس للمستأجرين أي ضغينة ضد المالكين، يعلنون ذلك صراحة، لكنهم يؤمنون بأن قضيتهم محقة وأن المالك استفاد على أكثر من صعيد، يقول جورج باخوس، أحد المستأجرين القدامى، مضيفاً: “يريدون من خلال القانون أن يجعلونا نوقع على وكالات للمالكين كي يقبضوا رواتبنا بدلاً عنا”، مختصراً المعاناة: “كبونا بالبحر. رواتبنا لا تكفي. لا فرق بينهم وبين داعش”.