في العشرين من نيسان الماضي، كان الياس ينتظر ابنه قزحيا ليعود إلى المنزل. لكنه تأخّر. قزحيا لا ينسى عيد أحدٍ، لا يترك مناسبة تمرّ دون أن يرسم البسمة على وجوه أفراد العائلة. يُعدُّ المفاجآت ويحتفل بأصحابها. في العشرين من نيسان لم يعد قزحيا ليحتفل بعيد ميلاد والده. فهدية الياس هذه السنة كانت خنجراً اخترق قلبه، فبدل أن يحضن بكره، تلقى خبر تعرّضه لحادث سير ودخوله في غيبوبة، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ليل الأربعاء الفائت.
كان قزحيا خليل ابن الثمانية عشر ربيعاً برفقة صديقه جاد بطيش في طريقهما إلى فاريا. وقع الحادث في لمح البصر. اصطدمت السيّارة بعمود كهرباء في ميروبا. توفّي جاد الجمعة الفائت. لم يطق قزحيا الانتظار كثيراً، فلحقه سريعاً، لكنّه انتظر بداية الشهر المريمي ليلتقيه في السماء.
الياس وقزحيا واللقاء الأخير
منذ دخوله إلى العناية الفائقة في العشرين من الشهر الماضي، كان قزحيا يرقد في غيبوبة، دماغه بالكاد يعمل، إلى أن توقّف تماماً منذ يومين.
مساء الأربعاء ترك الياس مستشفى سان – جورج في عجلتون صعوداً نحو فاريا. عند منتصف الليل تلقى اتصالاً من المستشفى وطُلب منه العودة، في طريقه ردّد مراراً: “قزحيا راح … قزحيا راح”. وصل الوالد. أعلن الطبيب المعالج الوفاة، وردّ عليه الياس: “لقد اطمئنّ قلبي على قزحيا الآن. سيذهب إلى والدته وهي ستعتني به”.
دخل الياس ليودّع ابنه. هناك كان اللقاء الأخير. كان جسده دافئاً. نظر إليه. حضنه بغصّة. وقال له معاتباً “كنا ناطريناك توعا وترجع معنا. هيك بتفلّ؟ تعودّت عليك تروح من البيت بس ترجع. تروح تنام بالدفاع المدني بس ترجع. هل مرّة رحت وما رجعت”.
هكذا استقبلوا العريس
وصل جثمان قزحيا إلى مسقط رأسه حراجل، مساء أمس الخميس، قبل أن يُنقل إلى جارتها فاريا حيث يسكن. على الطريق، توقف الموكب في مكان الحادث، هناك أطلقت المفرقعات الناريّة. عند وصوله إلى مدخل حراجل، أبى شباب الضيعة إلّا أن يحملوا نعشه الأبيض على الأكتاف.
“قزحيا عريس السماء، وحبيب الجميع، سيحظى بأجمل عرس وبأحلى طنّة ورنّة”. وعدٌ قطعه الأصدقاء على أنفسهم. حُمل النعش من مدخل حراجل إلى كنيسة مار شليطا في فاريا على وقع المفرقعات الناريّة والرصاص. مسافة طويلة لكن “الغالي راح، وما في شي بهالدني بيحرز بقا”. في فاريا استقبله رفاق الخدمة المدنيّة والواجب الإنساني، تجمّع رفاقه في الدفاع المدني بلباسهم ليودّعونه، زيّنوا سيّارات الفوج ورفعوا أصوات التراتيل منها.
جايي لعندك يا إمي
قبل ست سنوات، توفيت والدته ماري بعدما معاناة طويلة مع المرض. أمّا قزحيا، الذي ورث ضحكته عنها وتعلّم منها حبّ الناس، فلطالما عبّر عن اشتياقه لها. أغنيته المفضّلة كانت لها، كان يسمعها كلّ صباح ومساء، يردّدها في كلّ مناسبة، وها هي صدحت في أرجاء الضيعة يوم وداعه.
اليوم لم تعد الأغنية كلمات يردّدها قزحيا، ويعبّر من خلالها عن كلّ ما يختلج فؤاده، “يلي سكنتوا السما بجنب المسيح” باتت واقعاً، تحقّقت كلماتها، بعدما جُرح قلبه على فراق أمّه، وبعدما اشتاق للكلام معها، اليوم ستحضنه ويضمّها، ستقبّله فيتذّوق مجدّداً طعم الحنان.
وبقي شربل وحيداً
أمّا شربل، شقيقه الصغير، فهو يبكي بصمت، يرفض العزاء، لقد تلقّى الصفعة نفسها مرّتين. بعد وفاة والدته بات كتوماً، لا يفشي بأسراره إلّا لشقيقه. في صغرهما كانا يتشاجران دائماً. منذ سنوات قليلة أصبحا مقرّبين جداً، يخبران بعضهما أدقّ التفاصيل، يتشاركان الأحلام والذكريات. وما يعرفاه لا يدركه أحد سواهما.
“شربل كان الدني كلا لقزحيا” هذا ما يؤكّده ابن خالتهما شربل بطيش لـ”النهار”، لقد راسله قبل دقائق من الحادث، كتب له أنه عائد إلى المنزل مع جاد.
لقد وقع الخبر كالصاعقة على شربل، ذرف الكثير من الدموع، سيشتاق لشقيقه، لكنّه مستعدّ لتقبل صليبه، سيحمله هدية من ربّه ويمضي فيه.
العائلة تردّد: كلّ مناسباتنا باتت حزينة
كانت عائلة قزحيا مقرّبة من عائلتيْ خاله وخالته، كانوا يمضون الوقت معاً، يتشاركون الغداء كل أحد. عندما توفيت خالة قزحيا ظلت العائلة متماسكة. عندما لحقتها والدته ماري، تماسكت أكثر. واليوم قزحيا دفعهم لتجديد العهد: “سنبقى معاً، سنبقى مجموعين، سنبقى قلباً واحداً ويداً واحدة. لن نترك بعضنا رغم أن مناسباتنا باتت حزينة. لم تترك لنا الحياة إلّا الذكريات. ولكننا سنمضي برجاء وإيمان”، بحسب ما يؤكّد ابن خالته شربل بطيش.
ويتابع: “كان لديه الكثير من الأصدقاء، ولكن الأولوية للعائلة. كان شاباً طيباً وخدوماً وكريماً. يحبّ الناس. يحبّ الأولاد وخصوصاً أولادي شقيقتي. يقدّم كلّ ما لديه. كان مسؤولاً وواعياً ويُتكل عليه، لم يكتشف شيئاً من وسخ هذه الحياة، حافظ على نقاوة قلبه. كنا دائماً معاً، ثلاث عائلات كعائلة واحدة”.
رحل قزحيا ولم تستطع عمته نجاة إعداد التبولة له ولو لمرّة أخيرة. اعتادت العائلة في الأوّل من أيّار من كلّ عام أن تذهب في نزهة في الطبيعة. اليوم تجتمع في وداعه.
ما زال حياً في خمسة أجسام
من كانت هوايته خدمة الناس، وجد الناس حوله في رحلته الأخيرة قبل انتقاله إلى السماء. ومن كان يواجه آلامه بضحكة ويحمل صليبه دون تأفف، أبكى الناس وترك الغصّة في قلوبهم. رحل باكراً قبل أن يحقّق أحلامه الكثيرة، قبل أن يصبح “مهندس التيليكوم الي رح يرفع راس العيلة”، لكنه ترك ما فيه على الأرض.
عندما أعلن الطبيب وفاته، ليل ذلك الأربعاء، سألت إحدى الطبيبات الوالد إن كان يقبل بأن يهب أعضاء ابنه، لم يتردّد الياس كثيراً، وقّع على الأوراق المطلوبة، وأجريت لقزحيا العمليّات اللازمة في اليوم التالي، أخذوا عينيه ليبصر بها شخصان بحاجة لبصيص نور، وهب قلبه لإسعاف شخص تخفت نبضات قلبه، وقدّمت كليتاه لمريضين ما زالا يصارعان للبقاء. لم يمت قزحيا، فالروح لا تموت، والجسد الفاني الذي دفن في التراب، سيبقى بعض منه حيّاً في خمسة أجساد.
كان قزحيا مرجعاً في حوادث السير، يعلم الجميع عن من تعرّض لحادث، وعن حالته. هذه المرّة وقع حادث ولم يستطع إخبار أحد عنه. حادث سرق منه النور. قزحيا الذي كان يخاف الظلام منذ صغره، أغمض عينيه الآن. دفن إلى جوار والدته في كنيسة مار بطرس وبولس التي بناها جدّ العائلة بين فاريا وحراجل، وكان هو يهتمّ بنظافتها ويعتني بجوارها. رحل وكانت رسالته الأخيرة لعائلته على الواتساب “haha”. ربّما أدرك أنّهم سيحتاجون للضحكة من بعده فتركها لهم ذكرى جميلة منه قبل أن يمضي، لكنّه سيلقي السلام عليهم من السماء يومياً، وسيقول لهم في كلّ صباح، كما عادته، Hey. Kifkon? Ca Va.