Site icon IMLebanon

المتقاعدون: جنى العمر فاتورة لمستشفى

Retired
هديل فرفور

“البهدلة بأول العمر أرحم”

“كلما عملت أكثر، عشت أكثر”. يقول برنارد شو. لا تنطبق هذه المقولة على الكثير من العمال “كبار السن”، الذين “استنزفوا” عمرهم في العمل، سعياً لحياة هنيئة عند التقاعد. هؤلاء، غالباً ما يجدون أنفسهم، مسلوبي الطاقة والحقوق.
قبل سنتين من إحالته على التقاعد، صُرف العم ياسر (62 عاماً) من الفندق الذي عمل فيه أكثر من 25 عاماً. أُبلغ بأن إدارة الفندق لم تعد قادرة على دفع راتبه، وبأنها استبدلت به موظفاً براتب أقل.

تمكن الرجل الستيني من الحصول على 40% فقط من تعويضه المستحق، “بعد تسوية أخذت الكثير من المماطلة والوقت”. “عزّت عليّ أن أُطرَد بهالعمر وانحرم من تعويضي اللي كنت متكل عليه”، يحدّثك الرجل بنبرة خافتة ويضيف متحسّراً: “صعبة، تلاقي حالك فجأة مجرّد من حقوقك، خاصة لما تبلش تحس إنك مكسور”. يحدّثك العم عن “لعنة القدر” التي جعلته يصرف تعويضه خلال سنتين فقط. فور حصوله على التعويض، تعرّض لوعكة صحية، ولأنه لا يملك ضماناً صحياً، اضطر إلى أن ينفق الجزء الأكبر من تعويضه للاستشفاء على حسابه الخاص، إضافة إلى إنفاقه المبلغ الباقي للقسط الجامعي لابنه البكر محمد، “كنت عم هيأوا ليصير منتج، بس ما كنت عارف إني رح عوزو هلقد بكير”، يقول ممتعضاً.

أكثر من ست ساعات يقضيها العم ياسر في المقهى، “هرباً” من المنزل، “أدمن” القهوة شرباً ومجلساً، مذ شعر بأنه لم يعد فاعلاً في بيته: لم يعد منتجاً. يقتل الوقت بقراءة الجريدة تارة، وفي البحث عن عمل تارة أخرى، بالرغم من إدراكه صعوبة المهمة الأخيرة. “مين بدو يشغل زلمة ستيني؟” يسألك قبل أن ينهي حديثه قائلاً: “البهدلة بأول عمرك أرحم بكتير من البهدلة بآخر العمر”.

“يا يشغلونا، يا ما يشتغلوا فينا”

العم ياسر ليس المسنّ الوحيد الذي يبحث عن عمل، فالعم الياس (75 عاماً) يمضي وقته بحثاً عن عمل “ولو بربع المعاش” أيضاً. إلا أن هدف العم السبعيني مختلف. “أريد أن أشعر بأنني منتج”. الرجل الذي عمل محاسباً في إحدى شركات النفط في الكويت لأكثر من 55 عاماً، يجد أن لديه طاقة لم تطفأ بعد، إلا أنه اكتفى بعشر سنوات “زيادة فوق التقاعد”، وقرر الاستقرار في لبنان.
“ما كنت عارف إنو تحويشة العمر رح تكون على الأطباء”، يقول العم مبتسماً، يحمد ربه لأنه “مش عايز حدا، لكنه لا ينفك عن ترداد هواجسه من الدخول إلى المستشفى “اللي ما بتطلع منها بأقل من ألف دولار”، ويستطرد: “يعني مشوارين تلاتة ويعطيكي العافية. راحو المصاري”. الرجل الذي “يعشق” العمل، يرى أن عمل المسن ليس مصدر تعب، بل البيئة التي تشعره بأنه مهمش، و”كأننا لم نكن عمالاً يوماً، ندفع ما علينا من ضرائب ونقدم لبلدنا ما يقدمه بقية المواطنين”. يجاهر برغبته في العمل، حالياً، “حابب أشتغل كتير، بس ما بدي ذل حالي، يقولولي انت فوق السن أو تحت السن. شو خصن هني، أنا قادر أعطي بعد، ليه بدن يربطوني بالبيت؟”، قبل أن يختم: “يا يشغلونا، يا ما يشتغلوا فينا”، في إشارة إلى أداء السلطة تجاه المواطنين عموماً، والمسنين خصوصاً.

“ما تعبت بحياتي ليصرف عليّ ابني”

“هي قصة الشقة الملعونة، التي جعلته عدائياً”، يقول عبدو (25 عاماً)، الابن البكر للعم وحيد، الرجل الستيني المتقاعد منذ ثلاث سنوات. عندما حصل أبو عبدو على تعويض نهاية خدمته، كانت أعباء أسرته لا تزال قائمة. حاول استثماره بـ”مشروع منتج”، لكنه فشل بسبب “البلد الميت”. ووجد نفسه عاجزاً عن إعالة أسرته. حينها، اضطر عبدو إلى “إلغاء مشروع الشقة التي كان يستعد لشرائها” كي يحل بديلاً من أبيه.
يقول أبو عبدو: “لأني أنا عاجز، حرمت ابني يأمّن حاله، 40 سنة من الشغل ما كانوا كافيين”، يلعن هذا “الزمن”، ويقول: “كلما استعدت شريط حياتي، أشفق على نفسي، وأشعر بأنني فاشل”.
يغيب العم وحيد عن المنزل أكثر من تسع ساعات يومياً، لا يعرف أبناؤه أين يذهب، فيما يكتفي هو بالقول: “بعمل برمة كرمال أنسى وما أكتئب”. يقول ابنه إنه يتجنب إعطاء إخوته المال أمامه، كذلك يتجنب الحديث عن أي أمور مادية، وذلك كي لا يسمع عبارة أبيه المعهودة. “ما تعبت أنا لتصرف علي، ما بدي شي منك”. يختم أبو عبدو بالقول: “اللي بيقهرني اني ما بقدر اخود منو وما عندي بديل عنو فبكتفي بالعييط لضل حس حالي رب البيت”. يقر الرجل بـ”عصبيته غير المبررة”، يحمد الله أن اولاده بارين بحقه، لكنه كثيراً ما يتساءل :”لو لم يكن عبدو موجوداً، سأكون عالة على من؟”.