هنري ساندرسون وبينديكت ماندر
الأعلام السوداء تتدلى من أبواب منازل مكونة من طابق واحد مصنوعة من الطوب الأحمر في كيمانيز، وهي قرية تقع في تلال شمال سانتياجو على مجرى نهر بيوبو. اللافتات هي العلامة الأكثر وضوحا لاحتجاج بيئي عنيف ضد سد قريب، يحجز نفايات من أحد مناجم النحاس – من بين أكبر المناجم في تشيلي – في منطقة جبال الأنديز.
في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، تولت مجموعة من نحو 150 قرويا الأمور بيدها ومنعت الوصول إلى السد لمدة 75 يوما، على أساس أن أرضية المنجم ملطخة بالنحاس – الذي يستخدم في كل شيء من الهواتف الذكية إلى الأسلاك في مواقع البناء في الصين. في الشهر السابق شعر النشطاء بالثقة، بعدما قضت المحكمة العليا في تشيلي بأن أنتوفاغاستا، شركة التعدين المدرجة في لندن – الأغلبية فيها تملكها أسرة لوكزيكس، إحدى الأسر الأكثر ثراء في البلاد – إما أن تهدم السد، أو تخرج بخطة تسمح للمياه أن تتدفق إلى المدينة.
يقول خوان أوليفاريس، نائب رئيس لجنة الدفاع عن كيمانيز، في وقت كان يخطط فيه لتحرك المجموعة المقبل في غرفة صغيرة مدهونة باللون الأخضر تستخدم كما لو أنها مقر اللجنة: “نحن نستحق الاحترام، ينبغي ألا يترك الأمر لمجرد شركة تعدين لتفعل ما تريد”. وعلى الجدار توجد خريطة للسد الذي يدعي أنه يلوث إمدادات المياه في القرية ويشكل تهديدا بيئيا في حالة حدوث فيضانات أو زلازل.
ويقول: “ينبغي للمنجم أن يعيد المياه مرة أخرى للمجتمع”.
المعركة بين سكان كيمانيز وصاحب منجم لوس بيلامبريس، الذي ينتج أكثر من 400 ألف طن سنويا من النحاس، أصبحت رمزا للتغيير الاجتماعي في تشيلي.
وتلتزم حكومة الرئيسة، ميشيل باشليه، بمعالجة عدم المساواة وكجزء من ذلك تطالب بمعايير أعلى من أصحاب المناجم. لكن يحدث هذا على خلفية تباطؤ النمو في الصين، أكبر سوق للنحاس في العالم. أسعار المعادن – التي تشكل 13 في المائة من الناتج الاقتصادي في تشيلي – انخفضت إلى أدنى مستوياتها منذ خمس سنوات، تماما في الوقت الذي يواصل فيه المتظاهرون مرابطتهم خارج البلدة.
ويعزى هذا التحول في السياسة في تشيلي إلى زيادة التركيز على البيئة، ويكون هذا في بعض الحالات، على حساب النمو الاقتصادي. وتم إنشاء وكالة بيئة حكومية جديدة في عام 2013 للتحقيق في التزام الشركات، وفي وقت لاحق من ذلك العام تم تغريم شركة التعدين الكندية، باريك جولد كورب، 16 مليون دولار لانتهاكاتها في منجم باسكوا لاما للذهب والفضة.
انخفاض الأسعار
تنتج تشيلي نحو ثلث النحاس في العالم، وتعمل فيها شركات تضم “بي إتش بي بيليتون” و”أنجلو أمريكان” و”سوميتومو كورب” اليابانية. لكن الأرباح تتعرض لضغوط مع ارتفاع تكاليف العمالة والطاقة والمياه، تماما في الوقت الذي تتراجع فيه العائدات. وهذا، بدوره، يمكن أن يهدد الاستثمار في مشاريع جديدة ويهدد كذلك موقف تشيلي باعتبارها المنتِج المهيمن على مستوى العالم.
يقول أوسكار لاندريتشي، وهو مختص اقتصادي ورئيس مجلس إدارة كوديلكو، وهي شركة منتجة تابعة للدولة، تملك أكبر منجم للنحاس في العالم: “أعتقد أن ذلك كان وقتا عصيبا بالنسبة لمجتمع الأعمال لإدراك هذا وفهم أن الطريقة التي تجري فيها الأعمال في تشيلي قد تغيرت”. ويضيف: “عليك استحداث توازن جديد، وهذا يحتاج إلى بعض الوقت”. ويتابع: “كما هو الحال مع كل شيء يموت (…) فإنك تمر من خلال الحرمان والغضب، وعند نقطة ما تقبل ذلك وتمضي قدما وتعثر على صديق جديد”.
ويوجد في البلاد بعض من أقدم مناجم النحاس في العالم، حتى أن الرئيس الاشتراكي الراحل، سلفادور الليندي، وصف المعدن الأحمر بأنه “شريان الحياة في تشيلي”. وعلى مدى العقد الماضي، توجه الشباب بأعداد هائلة إلى صحراء أتاكاما للعمل في المناجم، وإرسال النحاس عبر المحيط الهادئ إلى الصين – المستهلك الأكثر شراهة منذ الثورة الصناعية في المملكة المتحدة. وفي عام 2010، جمع قطاع تعدين النحاس ما نسبته 20 في المائة من عائدات الضرائب في البلاد.
ومثلما هو الحال في بلدان التعدين الأخرى، مثل أستراليا، ازدهر التوظيف والأجور مع تحول شركات التعدين إلى شركات خارجية لجلب عاملين في مجال التشغيل، وبالتالي توظيف 1.1 مليون شخص في عام 2013. ومع ذلك، وجدت الشركات أنه على الرغم من جمع 40 مليار دولار من الاستثمارات منذ عام 2004 والأعداد الأعلى من العاملين، إلا أن إنتاجها انخفض في الواقع. وإجمالي الإنتاج السنوي من النحاس خلال أفضل سنوات النمو في الصين، الذي يتكون من أرقام من خانتين، بالكاد نما على الإطلاق.
ووفقا لأحد المديرين التنفيذيين في شركة تعدين دولية: “تكاليف العمالة في سبيلها إلى الارتفاع، والقوانين ونهج الحكومة لا يساعدان”، ويضيف: “تكاليف تشيلي سترتفع. ولا تهتم الحكومة لذلك. تشكل تشيلي 30 في المائة من إنتاج النحاس العالمي، وهم يعتقدون أن العالم لا يستطيع أن يستغني عنه. إذا ارتفعت التكاليف، يعتقدون أن الأسعار سترتفع كذلك وأن الهامش سيبقى هو نفسه”.
وكانت الصين مسؤولة تقريبا عن كل النمو العالمي في الطلب على النحاس بين عامي 2005 و2010. ومنذ ذروته في عام 2011، انخفض سعر النحاس العالمي بنسبة 40 في المائة.
وكان متوسط استثمار أكبر عشر شركات تعدين في تشيلي أكثر من ثمانية مليارات دولار في عام 2012، لكنه انخفض إلى ستة مليارات دولار في عام 2014. وفي الوقت الذي تقلص فيه شركات التعدين الخاصة من استثماراتها في مشاريع جديدة، يقع العبء على عاتق كوديلكو للحفاظ على حصة تشيلي في السوق العالمية.
وتخطط الشركة لاستثمار أكثر من 20 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة. لكن هذا فقط للحفاظ على عملياتها الحالية والإنتاج. ويلوح لاندريتشي برسم بياني يوضح حجم المشكلة التي تواجهها كوديلكو. فإذا لم تفعل شيئا بحلول عام 2023، سوف ينخفض إنتاجها بمقدار النصف. وبحلول عام 2030 ستختفي الشركة من الوجود. ويقول: “هذا يبعد عنا 15 عاما فقط”.
فضلا عن زيادة التنافس على موارد المياه، وهو ما يعني الاستثمار في تحلية المياه ونقلها إلى أعلى الجبال، مناجم الشركة آخذة في الهرم، ما يتطلب من كوديلكو أن تحفر إلى مسافات أعمق من أي وقت مضى عبر آلاف الأميال من الأنفاق.
الطفرة والكساد
في الماضي شهدت تشيلي فترات ازدهار وكساد وتحول في السياسة. في ثمانينيات القرن التاسع عشر دفعت طفرة في الطلب الأوروبي على النترات لإنتاج الأسمدة بالآلاف إلى صحاري شمالي تشيلي، لتفجير الأرض بالديناميت لاستخراج المعدن الموجود في الرواسب. وكان يتم إرساله على متن “سفن النترات السريعة” وهي سفن شراعية جميلة تقوم برحلة لمسافة 14 ألف ميل حول كيب هورن.
قبل الحرب العالمية الأولى، كان ثلثا الدخل القومي في تشيلي يأتي من النترات. لكن اكتشاف الكيميائي الألماني، فريتز هابر، في عام 1909 كيفية صنع النترات من الهواء قضى على تلك السوق واختفت تلك السفن الشراعية.
وكثيرون يتساءلون الآن لماذا لم يتعلم هذا البلد من ذلك الدرس ويعمل خلال الأوقات الجيدة على التنويع بعيدا عن صناعة النحاس.
تقول أورورا ويليامز، وزيرة التعدين في تشيلي: “في تشيلي، يواجه التعدين تحديات كبيرة في السنوات المقبلة، يجب أن نكون قادرين على مواجهة ذلك باقتناع”.
لكن تشيلي تواجه مهمة شاقة. في عام 1971، وسط غضب حول كمية المال التي كسبتها الشركتان الأمريكيتان، أناكوندا وكينيكوت، من مناجم البلاد، تم تأميم هذه الصناعة. وكانت الأجور تعادل ثُمن تلك التي في الولايات المتحدة في الستينيات، في حين أن الإنتاجية هي نفسها.
الوضع الآن معكوس؛ الأجور أعلى من تلك التي في الولايات المتحدة، بينما الإنتاجية أقل، بحسب دييجو هيرنانديز، الرئيس التنفيذي لانتوفاجاستا. في عام 2014، كما يقول، كان سائق الحفارة في تشيلي يتقاضى نحو 69 ألف دولار في السنة.
وعلى الرغم من ارتفاع التكاليف، من المرجح لأكبر شركات التعدين في العالم البقاء في البلاد. ورغم تباطؤ الطلب على النحاس في الصين، ترى شركة ريو تينتو أنه لا يزال قويا في الاقتصادات الناشئة الأخرى وأن ذلك يجب أن يدفع السعر مرة أخرى للارتفاع بحلول نهاية العقد الحالي.
لكن من الصعب التكهن بالموعد الذي ستشهد فيه السوق نقطة التحول تلك. حاليا، سعر النحاس يعتبر رد فعل على التباطؤ في الصين التي سجل اقتصادها العام الماضي أبطأ وتيرة نمو منذ عام 1990. ولأنها تستهلك أكثر من 40 في المائة من النحاس في العالم، فإن أي ضعف آخر للنمو في الصين، دون انتعاش في بقية العالم، يعني سنوات قبل أن يرتد السعر مرة أخرى إلى المستويات السابقة.
يقول لاندريتشي: “من الممكن أن نجادل بأنه خلال فترة الازدهار كان لدى الشركات الموارد لحل بعض هذه القضايا وربما أنها لم تكن لديها الموارد. فقد كانوا مشغولين فوق الحد بالاستفادة من الطفرة”.
منجم لوس بيلامبريس بذر بذور الشقاق. يقول السكان إن أربع أو خمس عائلات استفادت من خلال إنشاء المطاعم، أو الفنادق الصغيرة لعمال المناجم، لكن القرية لم تعد تصنع المال من قطاع الزراعة. وتوجد علامة مكتوبة بطلاء عند مدخلها تقول: “في المستقبل غير البعيد جدا سنقول لأبنائنا وأحفادنا كان هناك ذات مرة مدينة كان الرابط بين سكانها كبيرا”.
معركة قضائية
في آذار (مارس)، حقق معارضو المنجم انتصارا قانونيا ثانيا عندما أعلنت محكمة محلية أن خطة نتوفاجاستا للتصدي لقرار المحكمة العليا لم تكن كافية وأمرت الشركة بهدم جزء من السد، أو هدمه بأكمله. وتقول إنتوفاجاستا إن هذا الطلب يعتبر غير عملي وتخطط لاستئناف قرار المحكمة المحلية.
تقول الشركة أيضا إنها بنت قنوات محيطة بسد المخلفات، تسمح بتدفق المياه إلى المجرى. باستخدام المشترين، قامت أيضا بتزويد المدينة بآبار لمياه الشرب.
ويقول هيرنانديز: “لا يمكنك نقلها إلى مكان آخر، إذا كنت ستفعل ذلك سوف تتكبد تكلفة عالية جدا، وفي الوقت نفسه إعادة إنتاج المشكلة نفسها”. ويضيف: “أنشئ سد المخلفات لدينا وفقا لتصميم على طراز عالمي سواء من الناحية البيئية أو ناحية السلامة”.
ويرى آخرون في صناعة التعدين أن حكم المحكمة المحلية يظهر افتقارا إلى المعرفة بالجانب الفني للتعدين.
لكن النزاع المستمر منذ عشر سنوات في كيمانيز هو بمنزلة تحذير. وتقول شركات التعدين إنها نظرت إلى ما حدث لمعرفة كيفية استباق وتجنب نتيجة مشابهة في مشاريعها الخاصة.
يقول أليف كاراكارتال، المخرج الذي يعيش في القرية، الذي يقوم بتوثيق النزاع لمؤسسة دانييل ميتران في فرنسا: “كانت تشيلي دائما تناصر التعدين، لكن يجب عليها الآن تمثيل الشعب. سيكون هناك تغيير في تشيلي، والناس أكثر وعيا. وهي لا تعد بلدا فقيرا. يجب على شركات المناجم أن تتحمل المسؤولية”.