يُحكى أن وزارة المال هي المكان الأكثر عرضة للرشى والفساد في العديد من دول العالم بما فيها لبنان، كما يحتاج إصلاح الفساد في هذا المكان إلى ضبط الأموال والأفراد معاً. لكن يحدث أحياناً أن يتم التركيز على ضبط الأموال من دون الأفراد، فتصبح عملية الإصلاح خطوة ناقصة.
قد تكون هذه الخلاصة الأنسب لمختلف الإجراءات الجمركية التي إتخذتها وزارة المال في المرافىء والمعابر أخيراً، لضبط عمليات التهرب الضريبي وتهريب السلع والبضائع، في إطار عملية إصلاحية جديدة. وللغاية تم وضع دراسة جديدة تهدف إلى تغيير حقيقي في واقع إدارة المرافىء والحدود والجمارك.
إلا أن المشهدية العامة للإصلاح لم تكتمل بعد، حيث تمّ التركيز في الخطة الجديدة على ضبط التهرب من الضرائب والذي من شأنه زيادة إيرادات الخزينة، ولكن ليس بالنسبة المطلوبة نظراً لأن الخطة الجديدة لم تلحظ في إجراءاتها أي رقابة فعلية على أداة الفساد الجمركي. فالرشى هي أداة التاجر وتشكل “مصلحة” لموظفي الجمارك، فما هي إجراءات الرقابة المتبعة على الموظفين من قبل الوزارة؟
الإشكالية هنا تكمن في عملية التحقق مما هو موجود في الحاوية، فهل هو “بضاعة كسر” أم بضاعة صالحة للبيع؟ وهل هي بضاعة مستعملة أم جديدة؟ وعلى أساس التحقق يتم تحديد قيمة الرسم الجمركي. وهنا يتمكن التاجر من التلاعب بمساهمة المفتش، ويتم إخفاء حقيقة الأشياء والتصريح بما يتنافى وطبيعة السلع الموجودة.
وعلى ما يبدو، بعض البضائع لا يخضع أصلاً لآلية الكشف، وهذا ما يؤكده قيام بعض التجار بالتلاعب بأسعار السوق بعد تهربه من دفع الضرائب على بضائعه، بينما الأجهزة الأمنية غائبة عن أي نوع من أنواع المساءلة. لذلك لا بد من ضبط عمليات التحقق، وذلك يتطلب الرقابة على المفتشين المولجين تسهيل دخول السلع، والتأكد من عدم التلاعب بها أصلاً. لكن فعلياً يتحمل هؤلاء مسؤولية التلاعب في التصاريح المخالفة للحقيقة، وفق مصدر في وزارة المال.
كذلك، فإن الإجراءات التي صرح عنها وزير المال علي حسن خليل، أخيراً، تركزت بمجملها على مرفأ بيروت، رغم أن عنوان العملية الإصلاحية تضمن إصلاحات في إدارة الجمارك والمرافئ والحدود. وعليه فإن جانباً مهماً ما زال غائباً عن العملية الاصلاحية المنشودة. وفي هذا الإطار، لم تنفِ المسؤولة الإعلامية في وزارة المال، ريما فرح، في حديث لـ”المدن”، أن العملية الإصلاحية ما زالت “تحتاج إلى المزيد من الوقت كي تثمر نجاحاتها، وحتماً ستطال الموظفين”. وفي ما خص سبب التركيز على مرفأ بيروت، أكدت أن السبب يعود إلى حجم النشاط التجاري فيه، مشيرة إلى أنه “لا تراجع عن الخطة الإصلاحية والدولة لها حق في تحصيل رسومها وإيراداتها”.
الإجراءات الجديدة
تمّ العمل على ضبط التفتيش والتأكد من مطابقة البضائع للمواصفات المصرح عنها لدى الجمارك، ووضع معايير جديدة لضبط عمليات التهريب والتصريح عن البضائع والواردات الجمركية والتهرب من الرسوم وتصنيف البضائع بشكل مخالف، وغيرها من القضايا. وتم البدء بتحويل العمل بـ”الخط الأحمر”- وهو مسار تفتيش حسي (الكشف من قبل موظف على البضائع)- ما نتج عنه تأخر في إنسياب البضائع وخصوصاً في مرفأ بيروت. ولتفادي هذا التأخر تم رفع عدد المفتشين إلى 24 موظفاً، وإلزام الكاشفين بدوام عمل حتى السادسة مساء.
وقد أعيد النظر لاحقاً في هذه الإجراءات، بعد ارتفاع أصوات التجار إحتجاجاً على تأخر البضائع والتكلفة الإضافية المترتبة على ذلك، ما من شأنه أن ينعكس سلباً على أسعار المواد الإستهلاكية. وفي إطار تسهيل التجارة الخارجية، وافق المجلس الاعلى للجمارك على تجميد العمل الإلزامي بـ”الخط الأحمر” وفسح المجال للعمل على “المسار العشوائي”، ما خفض تكدس الحاويات في المرفأ بنسبة 40 إلى 45 في المئة. كما تم التنسيق مع جمعية الصناعيين في موضوع تسريع تخليص معاملات إستيراد المواد الأولية اللازمة للصناعات المحلية، على اعتبار أن رسومها الجمركية تساوي صفراً. ولتلك الغاية يتم رفع تقرير أسبوعي عن المواد الأولية المرخص لها من قبل جمعية الصناعيين وترسل الى مديرية الجمارك لاعتمادها.
وقد وصل عدد الحاويات المكدسة الى 600 حاوية من أصل 2000 حاوية كانت عالقة على المرفأ، وحتى مطلع الأسبوع المقبل “لن يكون هناك أي تراكم لأي مستوعب في مرفأ بيروت”، وفق ما أكده وزير المال، في لقاء دعت إليه “غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان” أمس الأول، للإعلان عن أبرز المستجدات في هذا الملف. وتم التأكيد خلال اللقاء على تحديد الفترة القصوى لاستلام البضائع بعشرة أيام يتم خلالها الكشف وانجاز الإجراءات.
وقد أكد خليل “أننا ما زلنا في مرحلة البحث عن افضل الصيغ التنظيمية والإدارية التي تعالج الوضع في الجمارك وبشكل جذري، ونحن في طور إصدار مرسوم لإعادة إحياء الهيئة المشتركة بين وزارة المال والهيئات الإقتصادية، واليوم نحن في صدد إعداد مشروع قانون لإنشاء محكمة جمركية بالتشاور مع وزارة العدل، بعدما اعددنا الإجراءات اللازمة لها”.
وقد نتج عن تلك الإجراءات وفق تصريحات خليل، خفض عملية الهدر وإعادة النظر في الكثير من البيانات الجمركية المقدمة للدخول إلى لبنان والتي كانت تنطوي على بعض التهرب الضريبي. كما تمّ ضبط إدخال العديد من البضائع من خارج المواصفات والبيانات الطبيعية لها، وأيضاً العديد من الأصناف التي كانت تدخل تحت عناوين “معفاة” ويتم تسويقها من دون دفع الرسوم المطلوبة.