لوسي بارسخيان
في مسيرة تطور البلدان وإقتصادها، لا رغبة لدى الشعوب بإعتراض الإستثمارات. ولكن في الدول النامية ومنها لبنان، تحوم شكوك حول إنشاء أنواع محددة من الصناعات، مصدرها إنعدام الثقة بوجود دولة قادرة على تطبيق قوانينها والضوابط الحامية لسلامة المواطنين وبيئتهم، وهنا يصبح رفض الناس للإستثمار مبرراً جداً.
عندما يسأل أهالي زحلة وكذلك جنتا عن السبب الحقيقي الذي يجعلهم يقلقون من إنشاء معمل ترابة في المدينتين، وقبل الإطلاع على دراسات تقييم الأثر البيئي التي يبرر اصحاب المعملين مشروعهما بها، يعيدونك الى تجربتي معملي سبلين وشكا اللتين لا تشجعان على الثقة بكيفية التعامل مع هذا النوع من المعامل وما ينتج عنها، ليسترسلوا في تبرير مخاوفهم بالإشارة الى إخفاق الدولة نفسها في فرض الضوابط البيئية، حتى في معمل الذوق الحراري الذي تديره بنفسها.
اذن المشكلة كما يشرح رئيس “جمعية الخط الاخضر” البيئية علي درويش لـ “المدن”، “ليست عند (النائب وليد) جنبلاط او (الرئيس سعد) الحريري أو (النائب نقولا) فتوش أو سواهم، بل في اهمال السلطة المطالبة بتطبيق القوانين ووضع الآليات لردع خطر التلوث، عبر فرض اجراءات تمنع أصحاب الإستثمارات من التقاعس في تركيب الفلاتر وصيانتها”.
ما يولد الاعتراض الاساسي على مشروعي انشاء معامل الترابة سواء في جنتا او زحلة او عين داره او غيرها، هي القناعة لدى المجتمعات المحلية بوجود سلطة اقوى من الدولة تحاول ان تمرر المشاريع بشروطها، او ان اصحاب هذه المشاريع اقوى من القانون، “بل يدرك بعضهم خبايا هذا القانون بحيث يفعل ما في وسعه للتحايل عليه”، بحسب درويش، وهذا ما يسقط كل المبررات التقنية التي لم يجهد اصحاب المشروعين في زحلة وجنتا لابرازهما الى العلن في الأساس، بل اكتفيا بإيرادهما في دراستي تقييم للاثر البيئي.
ويؤكد درويش أنّ “لا أحد لديه الهواية ليتحامل على صاحب رأسمال ينتج ويعمل ويوظف ويربح كأي مستثمر. ولكن عندما يتحول المال الى سلطة في لبنان، يصبح الموضوع شائكا جدا عند الترخيص لمثل هذه الاستثمارات”. وفي موضوع معملي الترابة تحديداً، تبدأ الشكوك من خلال تعديل تصنيف الاراضي الذي جاء لمصلحة أصحاب سلطة المال. فيما حق التملك لا يعني حق التصرف بالملكية، وفق درويش.
فإذا كانت أولى اوراق الثقة بمعملي الترابة سواء في زحلة او جنتا قد سقطت عند “التلاعب” بهوية الاراضي التي يخطط المستثمرون لإنشاء معاملهم عليها، فكيف يطلب من المجتمعات المحلية اعادة بناء هذه الثقة في مراحل المشروع غير المنظورة؟ ولماذا يطلب منها أن تحتوي معامل مصنّفة بالخطيرة بيئياً، في ظل انعدام المصلحة الوطنية في إنشائها، خصوصا أنه، وكما بات معلوماً، فإنّ هذه المعامل تنشأ للاستثمار في إعادة إعمار سوريا، فيما انتقالها من مكان إلى آخر في محاولة لإرساء أسسها على أي قطعة أرض تقبل بها، يسقط ادعاء وجود اي هدف “سامٍ” لإنشائها خدمة لمصلحة المجتمعات المضيفة الاقتصادية.
أما غياب الشفافية فليس سوى عامل إضافي لإرتفاع منسوب القلق الذي يساور المجتمعات المطلوب منها إستضافة هذه المعامل، وإكتمال قناعتها بأن هذه المعامل لن تؤدي خدمة سوى لأصحابها الذين ستتضاعف اموالهم بأرباح هائلة.
والى جانب الضريبة المباشرة التي تحوم التساؤلات حول التزام “حيتان المال بها” ماذا عن الضريبة البيئية المطلوب تسديدها؟ هل ستفرض الدولة زرع أشجار بديلة عن تلك التي ستقتلع؟ وهل سيؤمن اصحاب المعمل ومن منحهم التراخيص الضمانات بإقفال المعمل فور ورود اي خطأ تقني متعمد؟
ويطالب درويش بـ”إعداد دراسات بيئية تشرح بالتفصيل طبيعة الانبعاثات الناتجة من هذه المعامل في فترة الإنتاج القصوى، وكيف سيتم التخلص منها، وكيف ستتم حماية الناس والبيئة والمياه الجوفية من الاضرار الناتجة منه”.
كذلك فإنّ حداثة المعامل التي ستنشأ ليست سبباً لعدم التخوف منها، لأن المعامل لا تقاس بعمرها بل بحسن صيانتها وبكيفية إدارة المنشأة الصناعية والملوثات الناتجة عنها. هذا إذا كان هناك قبول بإنشاء المعمل. “والموضوع ليس برشوة الناس للسكوت عن حقها، وأي منشأة من هذا النوع إذا لم تلتزام بالمعايير المطلوبة، فإن ضررها لا يحصل اليوم بل بعد عشرات السنين”، يقول درويش، مضيفاً: “فلتكن معاناة أهالي شكا وسبلين والذوق الدرس الأوضح في هذا المجال، لأن من جرّب مجرب كان عقله مخرب”.