عثمان الخويطر
لقد اعتدنا على سماع، ما يطلِق عليه منتجو النفط، “خسارة الإنتاج”، ويقصدون بذلك توقف الإنتاج النفطي لساعات أو لأيام، أو حتى لسنوات، لأسباب قد تكون فنية أو سياسية، أو ربما بسبب الأحوال الجوية، كالعواصف الشديدة التي تتسبب في إغلاق موانئ التصدير وتوقف حركة النقل. ونحن نعلم أنه عندما يتوقف الإنتاج، كليا أو جزئيا، تبقى السوائل النفطية محفوظة في حرز أمين داخل مكامنها تحت الأرض، حتى يحين الوقت المناسب وتتحسن الظروف لإنتاجها. ولكن لدينا تحفظ شديد على نعت مثل هذه الحالة الطارئة بالخسارة، بينما المادة المعنية قابلة للإنتاج في وقت لاحق، وفي ظروف قد يكون لها فيه مردود أكبر. ونستثني من ذلك، بطبيعة الحال، حالات خاصة عندما يكون الإنتاج النفطي لمصلحة شركات أجنبية بموجب عقود محدودة بزمن معين. فعندما يتوقف الإنتاج من حقولها، لأي سبب من الأسباب، فذلك حتما يمثل خسارة كبيرة لها ونقصا في الدخل. وذلك لأنها لا تملك النفط الذي لم يصل إلى سطح الأرض ويكون جاهزا للبيع. فنجد أن شركات النفط غير الوطنية، تعتبر أن برميل النفط الذي لا يزال قابعا تحت الأرض ليس له قيمة، أي لا يضيف إلى دخلها نقدا. أما الشركات الوطنية التي، في الغالب، تمثل الحكومات المالكة للثروة النفطية، فالأمر بالنسبة لها مختلف تماما، ويجب أن تكون لها نظرة مغايرة عن تلك التي تتبناها الشركات الأجنبية. فالنفط لأصحاب الأرض عبارة عن ثروة نقدية معتبرة. أي أن قيمة البرميل قبل وبعد الإنتاج هي السعر الآني في السوق النفطية، ناقص تكلفة الإنتاج. ونحن نعلم أن هناك صعوبة كبيرة لدى بعض المسؤولين في شركات النفط الوطنية لهضم هذه الحقيقة، رغم وضوح معالمها. فهم لا يزالون يقيمون برميل النفط الذي لم تصله يد الإنتاج بعد، على أساس أن قيمته تحت الأرض تقل بكثير عن سعر البرميل المعروض للبيع في السوق النفطية. مع أن هناك احتمالا كبيرا لأن يصبح ثمنه في المستقبل أغلى من السعر الحالي بكثير. فالنفط مادة قابلة للنضوب. والقاعدة الذهبية تقول “إن المادة الناضبة يرتفع ثمنها مع قرب نفوقها”، ناهيك عن أن موضوع الحديث هو عن مادة حيوية واستراتيجية، ساهمت خلال العقود الماضية إلى حد كبير في نمو وازدهار الاقتصاد العالمي وبناء النهضة الكبرى للصناعة الحديثة.
ولعله من حسن حظ أجيال قادمة في بعض الدول، أن الإنتاج النفطي هناك كان قد توقف أو انخفض إلى مستويات متدنية عما كان عليه في السابق، قبل وقوع الأحداث الأخيرة التي أدت إلى التوقف أو الانخفاض في تلك الدول. فلو أن الإنتاج استمر عند المستوى الذي كان هو عليه في الماضي، في حدوده القصوى، لما وجد الأحفاد بعد عقود قليلة من هذه الثروة إلا القليل والمكلِف، أو ربما لا شيء. والسبب الرئيس لهذه النظرة العامة من قبل المسؤولين، هو الميل غير العادي إلى الإسراف في الإنتاج وعدم الاهتمام بمستقبل الشعوب، وعلى وجه الخصوص تلك الدول التي تعتمد بكامل دخلها على المصادر النفطية. فبدلا من تقنين الإنتاج عند مستوى متوسط يخدم المصالح الآنية والمستقبلية ومحاولة إجبار المجتمعات على قبول تنويع دخلها من مصادر مستقلة عن الثروة النفطية، نشاهد تبني سياسات اقتصادية وطنية لا تخدم المصالح العامة لأفراد المجتمع على المدى البعيد. فإذا اعتبرنا شعوبنا الخليجية كمثال للاعتماد على المصادر النفطية، نجد أن الأكثرية من مجتمعاتنا تفضل الركون إلى الراحة وممارسة الأعمال “الناعمة” غير ذات الإنتاجية الصناعية أو الخدمية، وتحصل على معظم دخلها من المصروفات الحكومية. وهذا خلل كبير في حياة الأمة، ولا هناك أدنى شك في أن ذلك سينعكس سلبا على مستقبلها عندما تفقد قسطا كبيرا من دخلها النفطي نتيجة للنضوب الطبيعي. ونحن لا نزال بصدد النفط التقليدي الذي يتميز بضخامة ودوام الإنتاج، مقارنة بالنفوط غير التقليدية، التي يتطلب إنتاجها مجهودا أكبر وتتميز بقصر العمر وقلة الإنتاج والتكلفة المرتفعة.
ونذكّر أنه في كثير من الأحيان تكون نتيجة توقف الإنتاج للأسباب الطارئة آنفة الذكر، هي مكسب للجيل القادم، الذي ربما نكون قد أخرجناه من حساباتنا من أجل بقاء رفاه عيشنا وراحتنا أطول وقت ممكن. وفي الواقع إننا بحاجة إلى إرادة قوية وعزم وتصميم للتغلب على الرغبة الطبيعية التي يمتلكها الإنسان، متمثلة في حبه وشغفه لجمع أكبر ثروة ممكنة من المصادر السهلة والمتيسرة. والشيء نفسه ينطبق على الحكومات التي ترى في ضخامة دخلها استقرارا لأمورها، بصرف النظر عن رؤيتها المستقبلية التي تتطلب طول مدة العطاء من أجل بقائها. ولكن رغبة الحاضر تتغلب على متطلبات المستقبل. ولذلك تجد أن الدول التي لديها ثروات طبيعية تحاول قدر الإمكان استغلال ثرواتها حتى لو أدى ذلك إلى استنزافها كليا، والتي لا تملك الثروات تسرف في الاستدانة من مصادر خارجية على حساب مستقبل أجيالها الذين سيدفعون الثمن غاليا. ونقول، خير الأمور الوسط، فلا إفراط ولا تفريط.