ثمة إحساس قوي في بيروت بأن شيئاً ما “فوق عادي” يجري في سورية التي لم تعرف أياماً عادية منذ أربعة أعوام… فبعد التقدم المباغت للمعارضة في الشمال وعلى نحو نوعي واستراتيجي، وتَحسُّن أوضاعها في الجنوب، بدا النظام في دمشق وكأنّه يأكل جنرالاته مع “الاغتيال البطيء” لرستم غزالة وتزايُد الكلام عن “المصير المجهول” لعلي المملوك، وسط تقارير لا يمكن فحص صدقيتها عن تصدّعات وإعدامات وتقهقر معنويات.
كل هذا جاء بعد “عاصفة الحزم” للتحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية في اليمن، والذي قيل ان وهجها لفح سورية، وجاء ايضاً مع العدّ التنازلي للاتفاق النووي بين ايران والغرب، والذي يدشّن مرحلة جديدة في العلاقات بين طهران وواشنطن عقب اكثر من ثلاثة عقود من العداء… اي ان التغييرات ذات الطبيعة “النوعية” في الميدان السوري تتزامن مع تغييرات في “قواعد اللعبة” في المنطقة القابعة فوق البركان.
وفي القراءة في كفّ “الميدان السوري”، الذي تجاوزت تطوراته الاخيرة عملية “الكرّ والفرّ” بين النظام ومَن معه والمعارضة بتلاوينها الاقليمية، يخلص المراقبون الى استنتاجات متناقضة الى حد “التناحر” بين مَن يتوقع انهياراً وشيكاً لنظام الرئيس بشار الاسد وبين مَن يعتقد ان جبهات القتال المفتوحة ستكون على موعد مع جيل آخر، في اشارة الى ان الصراع سيمتدّ طويلاً.
وبعيداً عن البروباغندا الاعلامية للقراءتين المتناقضتين، فان الذين يتحدّثون عن ان نهاية الأسد صارت أكيدة ولو بعد حين، يستندون الى ان التقدم الاستراتيجي الذي أحرزته المعارضة في ادلب وجسر الشغور جاء معطوفاً على قيام تحالف “عاصفة الحزم” العربي في مواجهة التمدد الايراني وترتيب العلاقات السعودية – القطرية – التركية ولو في حدّها الأدنى، اضافة الى “ضوء اخضر” اميركي لاي تدخل عسكري محتمل في سورية، وهو ما أشار اليه الرئيس باراك اوباما صراحة.
وبين المعلومات التي تحدثت عن غرفة عمليات في تركيا تدير معركة المعارضة في الشمال السوري، وتنسيق سعودي – اردني لإدارة المعارك في جنوبها، وبين التقارير التي تتوقع تطور الامور الى فرض منطقة حظر جوي واستكمال خطط تدريب المقاتلين السوريين وتزويدهم بأسلحة فعالة، يصبح واضحاً ان الصراع في سورية دخل مرحلة جديدة، تتيح للمعارضة استعادة زمام المبادرة بغية تحقيق توازن عسكري يصنع تسوية سياسية بمعزل عن الأسد.
أنصار هذه القراءة رأوا ان قوات الاسد او “بقاياها” أصابها التعب وأظهرت تقهقراً أخيراً، وان حلقته الضيقة عانت تفسخاً بدليل التخلص من رستم غزالة والشكوك التي تحوط مصير علي المملوك، اضافة الى التململ في البيئة الحاضنة للنظام (العلويين) التي دفعت أثماناً باهظة نتيجة رفض الاسد للحل السياسي، وتعاني الان قلقاً وجودياً مع اقتراب المعارضة من مناطق ذات غالبية علوية كاللاذقية.
وعلى عكس الانطباعات التي اوحت بتراجع الدعم الايراني لنظام الاسد، فان طهران على الوتيرة عيْنها في تأمين الاوكسيجين العسكري والمالي لدمشق ورفدها بمقاتلين من لبنان والعراق وافغانستان، لكنها لا يمكن ان تكون “بديلاً عن ضائع” في جميع المعارك التي تدور على ساحات مترامية في سورية وان تقاتل بالنيابة عن قوات الاسد التي لم تُبدي في سلوكها تصميماً على المواجهة على جبهات مهمة، على غرار ما حدث في جسر الشغور على سبيل المثال.
وثمة تقديرات تتحدث عن ان ايران قد تسلّم بايّ موازين قوى جديدة في سورية عبر الذهاب الى حل من دون الأسد، وخصوصاً انها تطمح لان تكون شريكاً مضارباً لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بعد التوقيع على الاتفاق النووي مع واشنطن التي أطلقت إشارات كافية للتعاطي ببراغماتية مع نفوذ ايران التي ستصبح “بلا أسنان” نووية.
أما القريبون من “خط الممانعة” يقاربون مفاعيل الاتفاق النووي على العلاقات بين طهران وواشنطن وصداه الاقليمي من زاوية اخرى. فإيران ستكون مستعدة، في حال تم الاتفاق ورفع العقوبات عنها، لمناقشة ملفات المنطقة مع الولايات المتحدة، وفق تدرج يبدأ بالعراق فاليمن ثم البحرين وأخيراً سورية.
لماذا سورية في “آخر الصف”؟ لانها بحسب هؤلاء اصبحت ملاذاً للجهاديين، فالأطراف الاقليمية والدولية على اقتناع بانه لا يمكن التخلص من هؤلاء الا من خلال إجهاز بعضهم على بعض، فالخسائر البشرية التي وقعت في المواجهات بين الجماعات التكفيرية نفسها منذ اعلان “داعش” “دولة الخلافة” يضاهي ما قتله نظام الاسد منهم على مدى سنة.
وفي تقدير هؤلاء انه يستحيل على النظام وعلى المعارضة المعتدلة التخلص من الجماعات التكفيرية المنتشرة في مناطق شاسعة والتي تتمتع بإمكانات لا يستهان بها، مما يؤشر الى ان سورية مفتوحة على قتال دائم رغم الانتصار التكتيكي لهذا الطرف او لطرف آخر.
وهذا الواقع بدأ يملي على أطراف المواجهة تعديل قواعد الاشتباك على غرار ما فعله “حزب الله”، اللاعب المحوري على الساحة السورية، فهو يعمل الآن على “إدارة العمليات” وليس كـ “وحدات قتالية” للحدّ من الخسائر البشرية في صفوفه، اذ لم يعد مجدياً الدفاع عن قرية او مدينة غير استراتيجية، وخصوصاً بعد تجارب مخيبة. فـ “حزب الله” كان يقوم باسترداد قرية او مدينة فيعمل بعدها ضباط من القوات السورية إما الى معاودة تسليمها او ترْكها مع اي هجوم عليها.
ويتحدث عارفون عن ان “حزب الله” يعمل وفق اولويات يعتبرها مهمة وتستحقّ التضحية، وهي تثبيت السيطرة على مدن استراتيجية مثل دمشق وحلب وتالياً فانه لم يعد مهتماً بالدخول الى مناطق غير استراتيجية.
وفي تقدير هؤلاء ان “حزب الله” الذي يجزم بان سورية لن تسقط ما دام يضطلع بحماية المناطق الاساسية فيها، فانه بدأ يعمل وفق معادلة تزاوج بين الحرص على الحد من مستوى الخسائر في صفوفه وبين تحقيق ما يعتبره انجازاً عسكرياً، فأسلوبه العسكري الآن يختلف عما كان عليه في القصير ويبرود ومزارع ريما.
وبهذا المعنى فان “حزب الله” لن يجازف بدفع خسائر كبرى لقفل مدينة حلب والربط بين المناطق، اي بينها وبين نبل والزهراء لانه سيكون في مواجهة أعداد كبيرة من المسلحين، لذا فانه اختار البديل الأقل كلفة والأكثر استراتيجية عبر تقوية صمود نبل والزهراء على النحو الذي يمنع اختراق دفاعاتها، رغم ما تعرّضت له من هجمات متتالية وغير متوقّعة منذ بداية الصراع، وخصوصاً في الأشهر الأخيرة.
وفي يقين حلفاء نظام الاسد ممن يقاتلون الى جانبه ان المعارضة التي تحقق بعض التقدم وتستولي على مناطق معينة، تحرز انتصارات مسمومة لانه سيكون عليها في ادلب مثلاً الاهتمام بشؤون الناس وإدارة المدينة وتثبيت الأحكام الشرعية، مما يعني انها ستكون على موعد مع صراعات بلا هوادة بين أطرافها، لا سيما تلك الاصولية والعلمانية.
هذه المقاربات المختلفة لما يجري في سورية تؤشر الى ان “لعبة النار” المترامية مستمرة على أشدّها وهي مرشحة للتأجيج على ايقاعيْن… عاصفة الحزم والاتفاق النووي.