صهيب أيوب
يقضي الحج إبراهيم الندّواي (87 عاماً) قيلولته في فيء شجرة زنزلخت، زرعها بعد ولادة حفيده منذ 8 سنوات. يستريح من ثقل أيام قضاها في عرض البحر. وتمدد في كثير منها على ضفاف النهر الكبير، قبل ان يطلق مركبه كل ليلة مع أولاده، ليصلوا الى جزيرة ارواد وطرطوس السوريتين، وهم يكملون رحلة صيد السمك.
كان زمناً آمناً، يسبق الازمة السورية، التي قضت على حياة الصيادين في القرية الحدودية المنسية، بعد أن تربص بهم رصاص خفر السواحل السوري، وقتل الشاب ماهر حمد (18 سنة)، في بداية الثورة في العام 2011، ليغلق البحر السوري أمام مراكبهم التي يصل عددها الى 40 مركباً، وكل مركب يعمل عليه 5 اشخاص من كل عائلة.
شكّل مقتل الفتى انقطاعاً للعلاقة التاريخية بين سكان العريضة وسوريا. أبقوا فقط على زيارات خاطفة الى أقاربهم في بلدة “شيخ جابر” السورية، والتي مازال أبناؤها يقضون أيام خدمتهم العسكرية، في مراكز الجيش اللبناني، ويعودون عبر نقطة الحدود الى بلدتهم، وقد يمرر بعضهم عبوات من المازوت معه، بعد ان أمسى انتقال هذه المادة عكسياً، من لبنان الى سوريا.
كانت أحوال سكان العريضة حينها مستقرة، رغم فقرهم واهمال الدولة اللبنانية لهم، التي بنت لهم مدرسة ابتدائية فقط، وأبقتهم في مجاهل الحدود، التي يعبرونها خفافاً إلى سوريا ويتبضعون من أسواقها، ويعيدون أطباء في طرطوس وبانياس وجبلة وقد يصلون الى اللاذقية، التي اشتروا منها السمك واصطادوا في أزرقها، قبل ان يعودوا مجبرين الى نهرهم الفقير، الذي ترسو فيه اليوم بضع مراكب، تحطمت اجزاؤها بسبب الرمال المتراكمة، والتي شكلت سواتر حدودية بينهم وبين البحر.
يقول الحاج ابراهيم ان “سوريا كانت معبر حياتنا. نشتري اغراضنا من هناك ونجد ان سوريا اقرب الينا من حلبا”، ويضيف ان “الازمة السورية قضت علينا بعض الشيء. ازداد فقرنا فقراً. كنا نعمل في البحر، ونصطاد خيراً وفيراً لأن الدولة السورية تؤمن حماية البحر من الديناميت، وكنا نشتري الأغراض بأثمان رخيصة، لكن اليوم بيوتنا تفرغ من الطعام لشدة بطالتنا. هناك عائلات تشحذ الملح، وتعتاش على السليق، ومن لديه بقرة فهو غني في قريتنا”.
قضى الرجل حياته بشقاء ممتع. يعدّها حياة كاملة. لم يعد يملك منها سوى ذكريات شحيحة. يرويها أمام أصدقائه من الصيادين من سكان قريته، “عشت الزمن كأنه شكة إبرة”، يقول وهو يلتقط يد حفيده الصغير، عياض، ليجلسه قربه، ويضيف: “كان الصيد اجمل شيء قمت به. واليوم لا قيمة لحياتي من دونه”. عاش أولاد العم إبراهيم الـ15 من “رزقة” البحر، “كانت الليرة بتحكي. وكنا بخمس ليرات نعيش ملوكاً”.
يدخن الحاج علبتي سجائر يومياً، تعيله على مجّها فناجين القهوة المرة، ويأكل لقماً قليلة من اللبن الذي تشتريه زوجته من بلدة السمّاقية الحدودية والسليق المطبوخ، الذي تحمله ابنتاه نوّار وميسلون على رأسيهما من أراض تطل على عساكر من الجيش السوري، وهم يتمركزون في نقطة حدودية. “لولا السليق لمتنا الجوع”، يقول وهو يبتسم، فتظهر اسنانه المتهالكة، التي عمل قبل اندلاع الثورة السورية على إصلاحها لدى طبيب في طرطوس.
يسند الحاج جسمه الى كرسيه، وهو ينظر الى “شباك” الصيد المتروكة في سلال سوداء. لم يعد يذهب الى النهر مع أولاده خليل واحمد واحفاده خالد ومحمد ووهيب، الذي سمّي تيمناَ بصديق العائلة، الدكتور الطرابلسي وهيب النيني، الذي كان يأتي ليصطاد السمك عندهم، “كان يأتي حين كان السمك وافراً، اما اليوم فزياراته نادرة”، ويضيف: “كان الرئيس شمعون يأتي الى هنا حين كان رئيساً. كنا نأخذه في مراكبنا ونصطاد السمك. لقد أحب هذه المنطقة ونهرها. لكنه لم يساعدنا بشيء. لم يكن يعرفه سكان القرية. ولم يكن لديهم أي معرفة برئيس لبنان او كيف يتم انتخابه. حصلنا على هوياتنا اللبنانية في وقت متأخر، رغم اننا لبنانيون وولدنا على هذه الارض”. مشيراً الى ان اول عائلة تم تسجيلها هي علوية من آل سلوم، موضحاً أنّ القرية تضم 6 عائلات علوية يعيشون معهم بشكل طبيعي ولم تغير الثورة أي شيء في حياتهم اليومية.
ويؤكد الحاج، الذي تغزو ملامحه سمرة داكنة، ان “الرئيس سليمان فرنجية اقام في مخفر الدرك الموجود في القرية، لمدة 3 أشهر اثناء حوادث ثورة شمعون، وكنا نخدمه انا ووالدي، ونأتي إليه بالطعام”، موضحاً ان اهل العريضة اكتشفوا لاحقاً انه رئيس لبنان. اذ لم يكن هناك أي مذياع الا لدى شخص واحد، وكان يستمع الى اغانيه، ويضع الأسطوانات فيه”. اليوم تتواجد في العريضة “أنتينات” يتمية مع بعض صحون “الساتلايت”. يشاهد أبناؤها مسلسلات تركية، او بعض نشرات الاخبار التي تتحدث عن مدن يحسونها بعيدة، كأن الذهاب اليها يتطلب سفراً.
لا يتذكر أهالي العريضة متى جاء اليهم مسؤول لبناني في غير مواسم الانتخابات. يحفظون وجه وزير الاشغال العامة غازي العريضي الذي زار بيوتهم، ووعدهم بجسر فوق النهر، فشيدت لهم الوزارة رصيفاً لمراكبهم المتروكة منذ شهرين. وهو حال يمتد على معظم رجال القرية التي تملك نساؤها “صكوك” ملكية المراكب، ويعمل بعض شبابها، ممن وجدوا ان مهنة الصيد لا يمكنها ان تعيلهم في شركتي “لاشاركوتياه” و”سبينس” في بيروت، ويعودون في نهاية الأسبوع الى بيوت عائلاتهم، وقلة من شباب البلدة، لا يتعدون الـ20 استطاعوا بعد حوادث نهر البارد دخول السلك العسكري، “هذه حالنا. فقراء نحاول العيش. كانت الدنيا خير، لكنها انقلبت علينا”.
كان الحاج ابراهيم قبل تعطله، يبيع “غلّة” السمك لصاحب مسمكة في ببنين، ويعود الى بيته لينام. موزعاً اهتمامه بين الصيد وزراعة الملوخية وقطاف “العكوب” في جرود عكار و”مرجحين”، في شهور أيار، ويبقى عاطلاً من العمل في ايام “تشارين”، حين يكون السمك يبيض، ويمنع الصيد من قبل البحرية اللبنانية، التي شددت من إجراءاتها، والقت القبض على زوارق دخلت خلسة المياه الإقليمية السورية، وهو ما سبّب غضب الأهالي اخيراً، فأحرقوا الدواليب احتجاجاً قبل نحو أسبوع.
يقول احمد شقرا، وهو صياد بدأ بالذهاب في عرض البحر منذ كان في السابعة من عمره، انه اضطر بسبب أزمتهم، الى “ضمان” أراض زراعية في قرى القرناصة والسبعة والترامس الحدودية، وزرعها بالبامياء واللوبياء ليبيعها لسماسرة في العبدة، “ماذا ستؤمن لنا هذه المواسم، تكلفنا أكثر مما ترد”، يقول وهو يرشف فنجان قهوة مرّة مع أصدقاء له، يجلسون في الشمس وهم يتبردون من حرارة الطقس، الذي يحمل رذاذاً مالحاً، يكاد يعلق في هواء القرية، ويختم كلامه بالقول: “رزقتنا ع الله”.