IMLebanon

معجزة الصين الاقتصادية .. تفقد ورقة العمالة الرخيصة

ChinaShaleGas
جابرييل ويلداو

عندما غادر دينج زياوبينج قريته، قوانجان، في عام 1919 للدراسة في باريس، ترك وراءه مجتمعا زراعيا يعيش في فقر مدقع في مقاطعة سيتشوان حيث مستويات المعيشة بالكاد ارتفعت خلال أكثر من 200 عام.

بعد 60 عاما، عندما أطلقت الإصلاحات الاقتصادية التاريخية التي طبقها دينج، العنان لموجة من المهاجرين دعموا تحول البلاد إلى قوة صناعية، كان زملاؤه القرويون من قوانجان في طليعة هذه الموجات.

ارتفع الإنتاج الزراعي في الصين في الثمانينيات في الوقت الذي كان يتم فيه تفكيك الكميونات الزراعية. ومن خلال السماح للزرّاع بالاحتفاظ بجزء مما ينتجونه، قدم دينج لهم حافزا لزيادة عائداتهم. لكن الطبيعة الجبلية لقوانجان كانت غير صالحة للزراعة الآلية، ما أدى إلى جعل المكاسب المتحصلة من الإصلاح بلا معنى.

يقول شين زياوجين (77 عاما) متذكرا الحياة في قوانجان بعد إدخال إصلاحات دينج في عام 1978: “كانت الأرض سيئة. يمكنك التنظيف فيها اليوم كله، لكن كان ذلك دون جدوى. اعتاد الناس التشاجر على القليل من الأسمدة”. ويضيف: “في الخارج كان يمكنك أن تكسب في اليوم أكثر مما تكسبه هنا خلال أسبوع. المال الذي يعيد الناس إرساله مهم في حياتنا هنا”.قياسا لعدد سكانها، كانت قوانجان أكبر مساهم في الصين في “معجزة المهاجرين”، ثلاثة عقود من النمو الاقتصادي المتسارع يدعمه تدفق غير مسبوق لليد العاملة من الريف إلى المدينة، وفقا لتحليل “فاينانشيال تايمز” لبيانات من تعداد الصين عام 2010. نحو ثلث السكان المسجلين في قوانجان، البالغ عددهم 4.7 مليون نسمة، لم يعودوا يعيشون فيها.

لكن مختصون اقتصاديون يقولون إن المرحلة الأكثر ديناميكية في تحول الصين إلى مجتمع حضري تعتبر مكتملة. المعين الذي لا حدود له للعمالة الريفية الفقيرة القادمة من مناطق مثل قوانجان ينضب الآن بسرعة كبيرة.

نهاية فائض العمالة الريفية – وهي معلم مهم يسميه الاقتصاديون “نقطة تحول لويس” – تحمل آثارا عميقة على اقتصاد الصين. ففي الوقت الذي يتباطأ فيه تدفق المهاجرين من ذوي الأجور المنخفضة إلى المصانع الصينية، يطالب العمال برفع الأجور، وهي ظاهرة كانت واضحة منذ عدة سنوات. هذا إما أن يدفع شركات تصنيع السلع الرخيصة إلى الإفلاس وإما يجبرها على رفع الأسعار، وهي إجراءات يمكن أن تؤدي إلى بطء نمو الصادرات التي ساعدت في دفع اقتصاد البلاد منذ عقود.

يقول ها جيمنج، خبير إدارة الثروات الخاصة في بنك جولدمان ساكس في هونج كونج: “ستصبح العمالة ورأس المال أكثر محدودية وأكثر تكلفة”. ويضيف: “الاقتصاد سيستعيد التوازن في الوقت الذي تتباطأ فيه الصادرات بسبب ارتفاع أسعار المصانع. لا بد أن يتباطأ الاستثمار. هذا هو بالضبط ما نراه في العقارات والتصنيع”.

محركات النمو

كثير من الخصائص التي ميزت اقتصاد الصين على مدى العقد الماضي – النمو السريع، وزيادة عدم المساواة، وارتفاع معدلات الادخار والاستثمار، والفوائض التجارية الكبيرة – يمكن أن تعزى في جزء كبير منها إلى موجات المهاجرين الذين يتدفقون إلى المصانع ومواقع البناء قادمين من المدن والقرى الصغيرة.

وتشير تقديرات المكتب الوطني للإحصاء إلى أن عدد الأشخاص الذين يعملون خارج بلداتهم لمدة ستة أشهر على الأقل كان 278 مليون شخص في العام الماضي. لو كانوا يمثلون بلدا ما، لكان تعداد المهاجرين في الصين سيكون رابع أكبر بلد في العالم.ومن المتوقع لنمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين أن يتباطأ إلى 6.1 في المائة خلال الفترة 2020-2016، مقارنة بـ 9.8 في المائة في الفترة 2009-1995، وفقا لتقديرات تساي فانج، مدير معهد السكان واقتصاد العمل في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، الذي يقدم المشورة للحكومة. وتقلص القوة العاملة هو العامل الرئيس.

آرثر لويس، عالم الاقتصاد المختص في التنمية، وضع نظرية نقطة التحول التي تحمل اسمه في عام 1954 لشرح كيفية بقاء الأجور في مستويات منخفضة في الاقتصادات الزراعية التي تخضع للتصنيع السريع. ومنذ ذلك الحين، تم تطبيق هذه الفكرة بشكل شائع على “النمور الآسيوية” مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان.

عندما يبدأ التصنيع، كما أوضح لويس، فإن إعادة توزيع العمالة من الزرّاع، حيث الإنتاجية منخفضة، إلى القطاع الصناعي الحضري، تدعم النمو السريع. لكن ثمار هذا التطور تتدفق بشكل غير متناسب لأصحاب الأعمال، لأن المجموعات العميقة من العمالة الريفية الفائضة تضمن بقاء الأجور في مستويات منخفضة.

توضح هذه الديناميكية معدلات عالية للغاية من الادخار والاستثمار، وهما السمتان المميزتان للاقتصاد الصيني الآن. ولأن أصحاب المصانع وشركات التطوير العقارية يعلمون أن بمقدورهم العثور بسهولة على عمال جدد، فإنهم يعملون بجرأة على توسيع نطاق عملياتهم. وارتفاع الأرباح يدعم مزيدا من الاستثمارات، ما يوجد حلقة ردود فعل إيجابية. العمالة الرخيصة وارتفاع معدلات الادخار ينتجان فوائض تجارية واحتياطيات نقد أجنبي كبيرة ويرفعان العملة. ويمكن لفقاعات الأصول أيضا أن تتطور، كما شهدت الصين في سوقها العقارية.

لكن في نهاية المطاف، تبدأ الأجور الريفية في التقارب مع القطاع الصناعي. عند هذه النقطة، يظهر النقص في اليد العاملة، الأشخاص الذين يعملون خارج بلداتهم لمدة ستة أشهر على الأقل كان 278 مليون شخص في العام الماضي. لو كانوا يمثلون بلدا ما، لكان تعداد المهاجرين في الصين سيكون رابع أكبر بلد في العالم يقول هوانج يي بينج، أستاذ الاقتصاد في الكلية الوطنية للتنمية في جامعة بكين: “عندما كتبت تعليقا افتتاحيا في عام 2004 بعنوان نقص اليد العاملة في الصين، ضحك علي أصدقائي. الآن يعتبر الأمر واضحا للجميع”.

اليوم، قلة من الناس الذين هم في سن العمل يشاهَدون في شوارع البلدات والقرى الريفية مثل قوانجان. هناك يشكل الأطفال وكبار السن الجزء الأكبر ممن تبقى من السكان.

التحول الحضري

تشنج ده تشيوان (64 عاما)، مدرس متقاعد كان يعمل في المدارس الابتدائية، يقول إن مدرسة قريته التي تبعد مسيرة ساعتين على الأقدام فوق تلال موحلة وسط بلدة في مقاطعة لنشو، هي في معظمها مهجورة. ويضيف: “لا تزال مدرسة القرية هناك، لكن يوجد صفان فقط وربما عشرة طلاب. ليس بإمكان ذلك أن يجعلها قادرة على الاستمرار. اختفى كل الآباء والأمهات للعمل في المدن”. كان في قريته 500 شخص من قبل. الآن يوجد 30 شخصا فقط.

وفي حين ذهب كثير من قرويي قوانجان إلى مدن بعيدة، انتقل تشنج إلى شقة مريحة في بلدة قريبة. البلدة التي تعتبر موطنا لعدد قليل من المباني الحكومية منذ عقد من الزمان، هي الآن صاخبة. وعلى الرغم من تصنيفها على أنها منطقة ريفية، إلا أنها في الواقع تمدينت بالفعل.

في مطعم في الهواء الطلق في بلدة مقاطعة لنشوي، يتناول أبناء الزراع طعاما ساخنا على طراز تشونجتشينج، ويتحدثون بصوت عال. ويتدفق البخار الكثيف من طاولات مصنوعة من خشب غير مكتمل الصنع، حيث يتم غلي أدمغة الخنازير، وكرشات البقر، وكلى البطة في مرق حار. التغيير الذي حدث في بلدته لا يمكن تصوره بالنسبة لتشنج الذي يتذكر العشاء المكون من البطاطا الحلوة، الذي كان يشاركه فيه زوجته وأطفاله الصغار في أواخر السبعينيات.

البلدات الموجودة في المقاطعات هي المفتاح لفهم التركيبة السكانية المتغيرة للصين. رسميا، 48 في المائة من سكان البلاد البالغ تعدادها 1.4 مليار نسمة لا يزالون يعيشون في الريف، وهذا الرقم يشير إلى وجود مجال كبير لمزيد من هجرة اليد العاملة.

لكن بيانات أخرى تصنف العمالة حسب القطاع، تظهر أن نحو 30 في المائة فقط من السكان يعملون في الزراعة. ويقول كاي إنه عندما يتم تصحيح التشوهات الإحصائية المختلفة ، فإن الحصة الحقيقية للقوى العاملة في للزراعة تكون مجرد 20 في المائة. ويتابع: “إذا ذهبت إلى القرى، أنا متأكد لن تجد أي عامل في الزراعة تحت 30 سنة”.

ندرة اليد العاملة التي بدأت في مراكز التصدير مثل مقاطعة قوانجاندونج، وصلت إلى داخل قوانجان، حيث كان العمال ذات مرة أكثر وفرة. وقد تسبب ذلك في صعوبات للمسؤولين مثل جان زهيونج، رئيس بلدية بلدة هيليو في مقاطعة لينشوي.

يقول جان، من مكتب بسيط دون كمبيوتر وغرفة نوم موجودة في الخلف: “الناس لديهم ذلك الانطباع بأن الرواتب تعتبر أعلى في الخارج، لكن هذا آخذ في التغير. تكاليف العمالة لدينا الآن تعتبر عالية جدا”. وتشير بيانات رسمية إلى أن أجور المهاجرين ارتفعت من 861 رنمينبي (139 دولارا) شهريا في عام 2005 إلى 2864 رنمينبي اليوم.

وحتى إذا ظلت الأجور في البلدات الريفية أقل مما كانت عليه في المدينة، الفجوة الآن قريبة بما فيه الكفاية حيث تجعل بعضا ممن يفكرون في الهجرة يختارون البقاء بالقرب من منازلهم لتحسين نوعية الحياة. وبحسب جان: “عدد الناس الذين يخرجون أقل من ذي قبل. الناس يريدون البقاء هنا ورعاية أطفالهم”.

وتناقص تدفق المهاجرين هو أحد جوانب تقلص القوة العاملة في الصين. لكن التباطؤ في التمدين يتزامن مع شيخوخة سريعة للسكان، وهو ما يعتبر تحولا رئيسا آخر يكمن وراء “نقطة تحول لويس”.

وحققت سياسة الطفل الواحد في الصين “عائدا ديموغرافيا” للاقتصاد، تقريبا بين عامي 1980 و2014. والآن تتحول تلك الأرباح إلى عجز. وبحسب كاي، عدد الصينيين الذين تراوح أعمارهم بين 15 و64 سنة بلغ ذروته عام 2013. وبدأت نسبة الأطفال وكبار السن إلى سن العمالة الصينية -نسبة الإعالة- في الارتفاع عام 2011. وكانت سياسة الطفل الواحد قد أدخلت في عام 1979، لكن بقي معدل المواليد في ارتفاع حتى الثمانينيات. وبلغت الولادات السنوية في الصين 25 مليون مولود في عام 1987، وانخفض العدد بشكل مطرد منذ ذلك الحين، ليصل إلى نحو 20 مليون سنويا بحلول عام 1997، ثم إلى 16 مليونا العام الماضي.

ويقول وانج فنج، خبير التركيبة السكانية الصينية في جامعة كاليفورنيا في إيرفين وجامعة فودان في شنجهاي: “بعد سنتين أو ثلاث سنوات، سترى انخفاضا جوهريا حادا آخر في اليد العاملة من الشباب الذين يدخلون سوق العمل”.

إعادة التوازن

مع ذلك، الوصول إلى “نقطة تحول لويس” له جانب مشرق. فمنذ سنوات مختصو خبراء الاقتصاد من أن الحصة الضخمة من الادخار والاستثمار في الصين تؤدي إلى تشوهات داخل البلاد وعلاقات تجارية غير متوازنة مع العالم.

وقد أدى هذا الاستثمار العالي إلى هدر تمثل في إنشاءات لا لزوم لها، وسوء توزيع لرأس المال، وطاقة فائضة. الطرق السريعة غير مستخدمة و”مدن الأشباح” الفارغة تعتبر سمة شائعة في الصين. القطاع الصناعي المتضخم، حيث مصانع الصلب وبناء السفن ومصانع ألواح الطاقة الشمسية تنتج أكثر مما يمكن للبلد استخدامه، أدى إلى توترات مع الشركاء التجاريين الذين يشكون من أن الصين تعمل على “إغراق” الأسواق بما لديها من الإنتاج الزائد.

وتشرح نظرية لويس كيف يمكن للتغيرات في ديناميكيات العمل أن تساعد في تصحيح هذه المشكلات وتشجيع هذا النوع من إعادة التوازن الاقتصادي الذي فشلت سياسة الحكومة حتى الآن في تحقيقه.

ارتفاع الأجور يأكل تدريجيا من الأرباح والاستثمارات، وبذلك “تحدث عملية إعادة التوازن بشكل طبيعي”، كما يقول روس جارنوت، الاقتصادي في الجامعة الوطنية الأسترالية والمحرر المشارك مع هوانج لمجموعة من الأبحاث حول الصين، خاصة بـ “نقطة تحول لويس”. ويضيف: “إن نقطة التحول تفرض حدوث إعادة التوازن”.

أي عملية لإعادة التوازن ستعمل بصورة جوهرية على إعادة تشكيل اقتصاد الصين وعلاقاتها التجارية مع بقية العالم. في عصر ما قبل نقطة التحول، هيمنت العقارات والبنية التحتية والصناعات الملوثة على الاقتصاد. في العصر الجديد، تزدهر صناعات الخدمات مثل الرعاية الصحية والإعلام والخدمات المالية والسياحة. وبدلا من ميل الواردات نحو سلع مثل النفط الخام وخام الحديد، ستشتري الصين مزيدا من المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية الأخرى.

وكانت التغيرات التي أحدثتها مجموعة إصلاحات دينج في قوانجان وعبر الصين ممكنة بسبب مجموعة من الظروف التي هي آخذة في الاختفاء بسرعة. بالنسبة للصين، لمواصلة التحرك نحو مكان بين مصاف الدول الغنية، تحتاج إلى أن تنمو من خلال تحسين الإنتاجية الحضرية، بدلا من مجرد نقل الناس خارج المزرعة للعمل في وظائف صناعية منخفضة الدخل.

يقول كاي: “ليست هناك حاجة للخوف من تباطؤ معدل النمو المحتمل”. ويضيف: “لكن المرحلة الجديدة من التطور تتطلب من الصين إنجاز تحول جذري في نمط نموها الاقتصادي، من الاعتماد الوحيد على مدخلات رأس المال والعمالة إلى تحسينات أكبر في العامل الكلي للإنتاج”.