لم يطرأ أي توسع جغرافي جوهري على ميدان الاشتباكات التي تدور في جرود القلمون الغربي منذ أربعة أيام، وبقيت الاشتباكات محصورة في محيط عسال الورد والجبة فقط، ولم تنتقل إلى المناطق المجاورة، سواء شمالاً أو جنوباً، وهو ما يشير إلى أن ثمة عملية عسكرية مضبوطة الإيقاع، لم تكتمل فصولها بعد.
في هذه الأثناء، اتخذت القوى العسكرية والأمنية اللبنانية عند مداخل الضاحية الجنوبية وفي داخلها، في الساعات الأخيرة، سلسلة إجراءات أمنية مشددة لم تشهد مثيلاً لها منذ سنة تقريباً، وشملت التدقيق في تفتيش السيارات والدراجات النارية والمارة، فضلاً عن تدابير اتخذت في عمق الضاحية، بالتعاون مع شرطة اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية و”حزب الله”.
هذه الجهوزية الأمنية العالية، رافقها تكثيف للعمل الاستخباري اللبناني، خصوصا في ضوء معلومات عن احتمال تحرك بعض الخلايا النائمة لتنفيذ أعمال إرهابية.
وبينما تركزت الاشتباكات في محيط الجبة بعد انسحاب المجموعات المسلحة من جرود عسال الورد، برزت مؤشرات إلى أن القلمون الشرقي قد لا يبقى بعيداً عن عدوى الحرارة التي أصابت توأمه الغربي، خصوصاً في ظل بعض التحركات التي يقوم بها تنظيم “داعش”.
ولم يتمكن “جيش الفتح” في القلمون من مواصلة إنكاره لتقدم الجيش السوري و”حزب الله”، وهو ما واظب عليه طوال أمس الأول، فأصدر أمس بياناً أقر فيه بانسحابه من جرود عسال الورد، واضعاً هذا الانسحاب في سياق محاولة التصدي للهجوم واستنزاف المهاجمين، مشيراً إلى أن السبب الرئيسي وراء الانسحاب هو تسلل مقاتلي حزب الله من جهة لبنان.
وتركزت الاشتباكات أمس في محيط بلدة الجبة المجاورة لعسال الورد من جهة الشمال، وشاركت المدفعية في قصف مواقع المسلحين وأماكن انتشارهم في محيط البلدة، بينما كثف الطيران الحربي السوري طلعاته ونفذ عدة غارات في المنطقة.
وأفادت المعلومات الأولية عن تحقيق الجيش السوري وحلفائه تقدماً سريعاً، تمثل بسيطرتهم على بعض المناطق في محيط الجبة، مثل حرف المحمضان وقرنة وادي الدار وحرف جوار الخراف وصير عز الدين ووادي الديب وشميس عين الورد وقرنة جور العنب.
وبدا أن الأولوية هي لأمرين معا: الأول، تثبيت ما أنجز ميدانياً حتى الآن، واستكمال التحضير لـ”المعركة” من خلال الحشد والاستطلاع الناري وجس النبض، والثاني، اعتماد أسلوب القضم المتدرج في منطقة القلمون الغربي، بحيث لا تنتقل المعارك إلى أي منطقة قبل الانتهاء من المنطقة التي تسبقها. لذا من المرجح أن تندلع الاشتباكات في رأس المعرة بعد الانتهاء من الجبة وهكذا.
ويأتي هذا الضبط الميداني لرقعة انتشار المعارك في ظل تعقيدات جغرافية كبيرة تحيط بمعركة القلمون الغربي، وتجعل احتمال انتشارها في أكثر من اتجاه أمراً أكثر من وارد. وبينما لم تبرز أي معطيات تشير إلى أن شرارة المعركة قد تنتقل إلى عرسال وجرودها، فإن ذلك يبقى احتمالاً قائماً، خصوصا أن الجيش اللبناني اتخذ من المقلب الشرقي إجراءات ميدانية غير مسبوقة، تأخذ في الحسبان احتمال أن يقدم المسلحون على فتح جبهة جديدة في المنطقة لتخفيف الضغط عنهم في منطقة الجرود.
وتشمل إجراءات الجيش منع أي محاولة للخرق، وأن يبقى قادراً على التحكم والمراقبة والسيطرة، براً وجواً، على مناطق واسعة في عرسال وجردها، خصوصاً أنه مهد لذلك بالسيطرة على عدد من التلال الإستراتيجية في منطقتي عرسال ورأس بعلبك في الأسابيع الأخيرة.
ويأخذ الجيش في الحسبان احتمال تجمع أعداد كبيرة من المقاتلين في جرود عرسال بعد انكفائهم من التلال والوديان التي بات يسيطر عليها الجيش السوري و”حزب الله”.
وكان القلمون الشرقي على موعد مع أول المؤشرات إلى أن السخونة في الجبهة الغربية قد تنتقل إليه، خاصة وسط التشابك المعقد لخريطة توزع المسلحين فيه واختلاف أجنداتهم ومصالحهم. وفي هذا السياق، حاولت مجموعة مسلحة افتعال اشتباكات بهدف قطع الاوتوستراد الدولي بين دمشق وحمص، وانطلقت المجموعة من محيط جيرود في القلمون الشرقي باتجاه المنطقة بين قلدون «المراح» ومعلولا، إلا أن وحدات الجيش السوري تصدت لها سريعاً، وعاد الاوتوستراد إلى نشاطه المعتاد بعد ساعات شهد فيها انخفاضاً في معدل الحركة.
غير أن التحدي الأبرز الذي يواجه القلمون الشرقي قد يكون في علاقة الفصائل المسلحة بعضها ببعض، واحتمال أن تتجدد المعارك في ما بينها، لا سيما في محيط المحسا والبترا، حيث تمكن «داعش» مؤخراً من تحقيق تقدم.
وقال مصدر ميداني، لـ”السفير”، إنه من المتوقع أن تتجدد المعارك في القلمون الشرقي، لا سيما في ظل المعلومات المؤكدة حول تحضيرات يقوم بها “داعش” بهدف الهجوم على “البترا” التي تضم جبالها أهم مخازن الأسلحة التي تملكها بعض الفصائل، وعلى رأسها “جيش الإسلام”، مشيراً إلى أن نجاح “الدولة الإسلامية” في السيطرة على هذه المخازن وما تحويه من أسلحة قد يؤدي إلى تغيير موازين القوى كثيرا، وأن القلمون الغربي عندها لن يكون بمنأى عن هذا التغيير.
وتشير المعطيات إلى أن “داعش” بات يملك نفوذاً متزايداً في القلمون الشرقي، سواء من حيث عدد عناصره والعتاد الذي يملكه، أو من حيث عدد الفصائل التي تقف على الحياد وترفض قتاله، وآخرها “لواء تحرير الشام” و”لواء أهل الشام” اللذان وجهت إليهما اتهامات مباشرة بالتعاون معه وتسهيل دخوله إلى منطقة المحسا.
وقد يكون أبرز ما يشير إلى تزايد نفوذ “الدولة الإسلامية” في القلمون الشرقي إصداره بياناً يطلب فيه من الفصائل التي تقاتله إعلان توبتها ضمن مهلة ثلاثة أيام تنتهي اليوم. ومما له دلالته أن أول المستجيبين لهذا البيان هم مجموعة مسلحين تابعين إلى “جبهة النصرة” انشقوا عن جماعتهم، وأصدروا بياناً أعلنوا فيه توقفهم عن قتال “داعش” وسط تأكيدات بأن هذه المجموعة انتقلت إلى منطقة آمنة بالنسبة إليها، ومن المتوقع أن تنضم إلى “الدولة الإسلامية”.
فيما أصدرت قيادة “جبهة النصرة في القلمون الشرقي” بياناً نفت فيه علاقتها بالبيان السابق، وأكدت أنها مستمرة في قتال الخوارج ما دام فينا عرق ينبض.
ويعتبر هذا الانشقاق الأول الذي تتعرض له «جبهة النصرة في القلمون»، علماً أن جبهة النصرة تقسم القلمون إلى ثلاثة قطاعات، القلمون الغربي بقيادة أبو مالك الشامي، والقلمون الشرقي بقيادة أبو عامر الشامي الذي قتل قبل أسبوعين ولم يعرف من حل مكانه، وقطاع الزبداني بقيادة أبو هاشم الشامي، غير أن هذه القطاعات الثلاثة تخضع في النهاية لقيادة أبو مالك الشامي الذي يعتبر بمثابة «الأمير العام» على منطقة القلمون بكل مناطقها.
إلى ذلك، ذكرت صحيفة “الوطن” السعودية أن لبنان ليس له علاقة بالحرب الدائرة في سوريا، وليس من مصلحة اللبنانيين التورط فيها.
وقالت: “للأسف يقود حزب الله حربا إقليمية في سوريا، من أجل الحفاظ على مكاسب إيران، كونه يمثل ذراعها العسكرية الطولى في المنطقة، لذا يجب رفض أن يكون لبنان جزءا من هذا كله، ويجب أن يكون اللبنانيون على قدر كبير من الوعي حتى لا يجرون إلى أتون الحرب المشتعلة في سوريا”.
وعبرت عن مخاوفها من إصابة لبنان ببعض شظايا الحرب السورية، و”أن يدفع اللبنانيون ثمن مغامرة حزب الله كونه أحد مكونات الجسم اللبناني، إلا أنه اختار أن يكون طرفا في هذه الحرب، لا بل رأس حربة المعركة نيابة عن نظام الأسد”.
وأضافت: “إن اللبنانيين يراهنون اليوم على الحد من تداعيات ما سيحصل في القلمون، والأهم من هذا كله أن يكون الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية بمنأى عن معركة حزب الله وقوات الأسد ونظام الولي الفقيه. ويجب على الجيش اللبناني أن يكون متيقظا لمحاولات حزب الله من أجل توريطه في هذه الحرب، وأن يكون السد المنيع عند الحدود وفي الداخل اللبناني، حتى يمنع تسلل أي مجموعات إرهابية تهدف إلى زعزعة الأمن اللبناني. كما يجب ألا يكون لبنان جزءا من الحريق المشتعل في المنطقة. وألا يجر إلى مستنقع الحرب الدائرة في سوريا”.
وليس بعيداً عن صخب المعارك في جرود السلسلة الشرقية اللبنانية، علمت «الأخبار» أن اجتماعاً أمنياً موسّعاً سيعقد اليوم، بحضور رئيس الحكومة تمام سلام ووزير الدفاع سمير مقبل ووزير الداخلية نهاد المشنوق وقيادات أمنية رفيعة المستوى، بينها قائد الجيش العماد جان قهوجي، لمناقشة الأوضاع الأمنية في البلاد.