بشرشف أزرق لُفّ، وأمام سور مدرسة حاريص رميَ، دماء خلاص والدته لا تزال على وجهه، هي تخلصت منه وهو يصرخ وكأنه يشعر أن ما سيواجهه في الحياة قاس، كيف لا وهو وليد غريزة عاشتها أمه للحظات ليدفع ثمنها العمر كله. هو الطفل الذي عثر عليه بالأمس القريب ليكون ضحية جديدة تضم الى لائحة “اللقطاء”.
الأباء يأكلون الحصرم والابناء يضرسون، لا بل يعذبون بعد أن يلقى بهم الى المجهول على يد من يفترض أن يكونوا سندهم في مواجهة الصعاب فكانوا من كسروا ظهرهم قبل أن يشتد عظمهم، هم الخطأ الذي ارتكبه آباؤهم وهم من سيعيشون تداعياته، هذا اذا كتبت لهم الحياة ولم تنهشهم الكلاب او يقتلهم البرد والهواء، بعد ان يلقى بهم عراة او ملفوفين بشرشف أو متروكين داخل كرتونة أمام حاويات النفايات أو المساجد أو دور الايتام. الوالدة خافت من العار والاب رفض تحمل المسؤولية وفي كلتا الحالين الاطفال هم الضحية. التداعيات القانونية والآثار النفسية التي سيواجهها الابناء صعبة إن لم تكن مميتة في مجتمع لا يرحم الضعفاء فكيف سيرحم من ولد من بذرة غير شرعية.
“لن أسامح والدي…تركني من دون هوية”
في الآونة الأخيرة بتنا نسمع كثيراً عن أطفال الكرتونة، فمنذ بداية السنة الى اليوم عثر على ثمانية اطفال لقطاء بحسب احصائيات قوى الأمن الداخلي التي حصلت عليها “النهار”، منهم طفلة موضوعة داخل كرتونة قرب حاوية للنفايات عند مفترق بلدة دير دلوم في عكار، وقبلها عثر على رضيع ملفوف بشرشف تحت مبنى على طريق صيدا القديمة وعلى رضيع آخر تحت جسر الرميلة، أخبار تمر على مسامعنا مرور الكرام لكن السؤال ماذا يحل بهؤلاء وكيف سيصارعون للبقاء؟ من يمسك بأيديهم ومن يرعاهم؟ هل يحصلون على هوية ام لا؟
طريق طويل
“عند العثور على طفل مرمي في مكان ما يجب إبلاغ القوى الامنية لتسجيل إفادة بالحادثة، يشار فيها الى العلامات الفارقة التي تميّزه، ينقل بعدها الى أحد المستشفيات لمعاينته وإصدار إفادة طبية له، بعدها يسلم الى مؤسسة ترعاه، اما اذا أراد ان يتكفله شخص فعليه إبلاغ النيابة العامة للحصول على غطاء قانوني”، بحسب ما شرحت رئيسة تجمع الهيئات من اجل حقوق الطفل في لبنان المحامية أليس كيروز لـ”النهار”. وأضافت “على من يتكفل بالطفل سواء أكانت مؤسسة ام شخصاً إصدار هوية له، على ان يسجل تحت اسم أم وأب وعائلة مستعارة”.
لكيروز عتب كبير على الدولة اللبنانية التي لا تزال تضع كلمة مستعار امام اسم الطفل “اللقيط” في الدوائر الرسمية، وتقول:”نحن ضد هذا التمييز الذي يظهر ان الطفل من علاقة غير شرعية”.
كلمة “لقيط” تلاحقهم
بحسب المنطقة التي عثر على الطفل فيها يتم نقله الى دار رعاية اما مسيحية او مسلمة، وأحد هذه الامكنة التي تؤوي من تخلى عنهم اقرب الناس اليهم هي قرى الاطفال SOS حيث لفتت الرئيسة الوطنية للجمعية فيفيان زيدان في اتصال مع “النهار” ان “هؤلاء الاطفال يطلقون عليهم مسمى فاقدي الرعاية الابوية، وهم يجلبون الى المؤسسة بأمر حماية إما من وزارة الشؤون الاجتماعية او من حماية الاحداث. فبعد ان يعطي الدرك اشارة الى النيابة العامة يصدر القاضي في المحكمة امر حماية وكذلك الامر بالنسبة إلى وزارة الشؤون الاجتماعية”. واضافت “هؤلاء الأولاد ليس لهم اوراق ثبوتية، نعمل على إصدار أوراق شرعية لهم تستغرق وقتا وتكلفة، لكن، ويا للأسف، يبقى على سجلهم مكتوب كلمة لقيط، على الرغم من اننا نعطيهم في الغالب اسم عائلة الأم التي ترعاهم في المؤسسة”.
بين التوكيل والكفالة
عدد “اللقطاء” الذين دخلوا المؤسّسة في السنتين الأخيرتين ارتفع كثيرًا وذلك يعود بحسب زيدان الى “الاوضاع الامنية والاقتصادية”، ومع ذلك ترفض المؤسسة تبني أي طفل خارجها “نحن نأخذ توكيل برعاية الأولاد ويستمرون تحت رعايتنا حتى يبلغون سنّ الخامسة والعشرين، أي حتى التخرج والعمل ومن يريد أن يكفلهم بامكانه تقديم المال الى المؤسسة”.
في حين أن مؤسسة دار الايتام الاسلامية التي تعنى كذلك بمثل هذه الحالات تسمح بكفالة الطفل خارج المؤسسة بشروط، حيث شرحت رئيسة قطاع دار الأيتام الاسلامية سمر الحريري لـ”النهار”، قائلة: “أهم الشروط الواجب توافرها وجود زوج وزوجة، فما ينقص الطفل هو جو العائلة الذي نحرص على تأمينه داخل الميتم، ونحن نقف الى جانبهم حتى انتهائهم من تحصيل علمهم والحصول على وظيفة وشق طريقهم في الحياة”. ومن الشروط الأخرى لكفالة طفل من دار الايتام الاسلامية، “ضرورة تأمين عيشة لائقة وجو سليم له مع استمرار الدار بزيارته بين الحين والآخر”.
حين تكشف الحقيقة
الحقيقة في أحيان كثيرة تجرح، فكيف أن كانت تذبح، لذلك معرفة اللقيط بوضعه وأنّه نبذ من اهله عند خروجه الى الحياة قاتلة، فكيف اذا تم ابلاغه بأنه لقيط، عن ذلك شرحت زيدان “لا نكذب عليه، جرعة جرعة نخبره بالحقيقة، نقول له أن لديه اهلاً لكن لا نعرف اين هم”. وتضيف: “هناك عدد كبير من الاولاد عندما يكبرون يصرّون على معرفة اهلهم فتبدأ رحلة بحثهم، كما قد يحصل العكس فيبدأ الاهل رحلة البحث عمن تخلوا عنه”. اما الحريري فلفتت الى انهم “يفهمون وضعهم مع الوقت، عندما يكتشفون عدم وجود عائلة تأتي لتصطحبهم كل نهار سبت على عكس زملائهم في الميتم، البعض يتقبل وضعه، والبعض الآخر يرفضه فيتحول الى شخص متشائم وعدواني”.
هل يمكن تبنيهم في الدين؟
هل يسمح الدين الاسلامي والمسيحي بتبني طفل؟ عن ذلك اجاب مدير عام الأوقاف الإسلامية في لبنان الشيخ هشام خليفة “فكرة أو مبدأ التبني بغض النظر عن الصفة هي من اساسيات الاسلام أيّ ما يسمّى الكفالة أو الولاية أو التولي، فالاسلام يرفض التبني في وجهة واحدة فقط وهي أن يعطى اسم هذا الانسان الى العائلة المتبناة، نحن نركز على بقاء اسم عائلته غير اسم العائلة التي تكفلت به، الامر الثاني المحظور شرعاً هو الا يصبح من العائلة بكل المعطيات الشرعية التي تعطيه حقوق شرعية كالابن الحقيقي، مثلاً اذا كان ممنوعاً على الاخ ان يتزوج اخته، فالاسلام في حال كفالته لا يعطيه هذا المنع، كما لا يحق له ان يرث، وما عدا هذين الامرين فإنّ الاسلام يحض على الكفالة، والرسول يقول أنا وكافل اليتيم في الجنة”. واستطرد أنّ “الكفالة للقيط واليتيم والفقير أمر شرعي ومطلوب وفيه ثواب كبير”.
اما في الدين المسيحي، فشرح كاهن رعية مار تقلا الاب جوزف سويد ان “التبني مسموح لا بل مرغوب والشرط الوحيد ألا يباع الولد”، وقال: “لا نسميهم لقطاء، هؤلاء أولاد الأب وورثة الملكوت”. وأضاف: “في المسيحية يصير ابناً لديه كل حقوق الابن، والمتبنى هو كما تبنى الله الانسان وكما تبنى مار يوسف الرسول يسوع فبات ابيه الشرعي”.
واستطرد: “لدينا لوائح لأشخاص يرغبون في تبني طفل، وللأسف بعض القضاة والأطباء يتاجرون بالأطفال من طريق بيعهم بعشرة الى عشرين الف دولار، الكنيسة لا ترضى بهذا الأمر، هناك أديرة للراهبات كـ”راهبات المحبة” و”مار تريزا” اذا وصل طفل اليهم بطريقة ما، ينجزون معاملاته القانونية على نفقتهم قبل ان يتبناه شخص”.
ليس “أطفال الكرتونة” هم العار كما ينظر اليهم البعض، بل من هانت عليه أن يرمي ثمرة شهوته للحظات ليعذب إنساناً مدى الحياة!