عزة الحاج حسن
ليس جشع المصارف وحده ما يثنيها عن القيام بواجباتها تجاه “الإقتصاد الكلّي”، من خلال إقراض القطاع الخاص وتنشيط القطاعات الإنتاجية، بل سياسة الدولة أيضاً ترسّخ هذا الخلل.
فليس على المصارف “حرج” حين تتجاوز موجوداتها مليارات الدولارات، ولا تتعدى نسبة إقراضها للقطاعات الإنتاجية، لاسيما الزراعة والصناعة نسبة 12%. فالمصارف التجارية “مريضة” بمضاعفة أرباحها عبر الفوائد وليس الإستثمار. لكن الحرج الأكبر يكمن في مساهمة الدولة – عبر وزارة المال – بطريقة مباشرة وغير مباشرة، في توجيه المصارف باتجاه إقراض القطاع العام على حساب القطاع الخاص، والمساهمة بالتالي بتباطؤ نشاط القطاعات الإنتاجية وحرمانها من التمويل.
تقارير المصارف الدورية توحي بأرقام مقبولة تميل الى الارتفاع، بالنسبة الى إقراض مجمل القطاعات الإنتاجية، فتصل مثلاً نسبة القروض لقطاع التجارة والخدمات الى نحو 34.5% سنوياً في حين أن قروض القطاع الصناعي لا تتعدى 11.29% والقطاع الزراعي نحو 1.03%، في مقابل ارتفاع نسبة إقراض الدولة في بعض المصارف الى نحو 75%. ولا بد هنا من الإشارة الى أن تلك الأرقام “المقبولة” في بعض القطاعات تعود الى فضل السلة التحفيزية التي أطلقها مصرف لبنان لتشجيع الإقراض، فكيف يقرأ مصرف لبنان هذه الأرقام غير المتجانسة؟
يوجز العضو السابق للجنة الرقابة على المصارف أمين عواد، سياسة الإقراض بأن المصارف التجارية تلجأ الى الإستسهال في تحقيق أرباح على حساب إضعاف القطاعات الإنتاجية، لاسيما قطاعي الزراعة والصناعة، معتبراً أن الدولة ممثلة بوزارة المال هي المحفّز الأول لسوء استخدام أموال المصارف في قطاعات من شأنها تنشيط الاقتصاد الوطني. وبالرغم من أن ريع الإقراض للدولة بات يقارب ريع الإقراض للقطاع الخاص من حيث نسبة الفوائد، الا أن المصارف تتجه إلى اقراض الدولة على حساب القطاعات الانتاجية لأن المخاطر أقل وعملية الاقراض تتم بشكل أسهل، أي أنها لا تحتاج الى فتح ملف تسليف. ويضيف عواد أنّ “تراكم عجز الدولة وعدم وضوح سياسة مالية تحقق تدريجياً التوازن بين الإيرادات والنفقات يدفع الأخيرة الى اللجوء دوماً الى الاستدانة من المصارف عبر إصدار سندات خزينة بالليرة أو بالعملات الأجنبية لسد العجز الحاصل”.
ويقول عواد إن “الدولة والمصارف تحرم القطاعات الانتاجية من التمويل وتستخدمها في مصاريف جارية غير منتجة، كرواتب موظفي القطاع العام وسد الديون وغيرها”. ويذكّر بأن السبب الأساسي في هذا الخلل هو غياب السياسة المالية الهادفة الى الحد من العجز، “فلا حلول للاقراض السليم سوى بوقف الاستدانة”، ما يخفف نسبة العجز بشكل تلقائي، وبالتالي تضطر المصارف الى التوجه لإقراض القطاعات الإنتاجية.
وأن تلجأ المصارف الى الاقراض انطلاقاً من حسها بالمسؤولية تجاه الاقتصاد الوطني فهو أمر لم ولن يُطرح يوماً، بحجة أن اقتصادنا الحر يمنح المصارف التجارية حرية مطلقة في استخدام أموالها بالشكل الذي تريد تحت سقف القانون.
والنتيجة أن شبه شلل القطاعات الانتاجية في لبنان بات مرتبطاً بشكل مباشر بوقف العجز في الخزينة العامة وتحفيز الدولة لقطاعاتها الإنتاجية من جهة، وإلزام المصارف التجارية باقراض القطاعات، لاسيما الزراعة والصناعة من جهة أخرى.
لا شك في أن السياسات المالية والنقدية التي اتبعتها الحكومات اللبنانية المتعاقبة، ساهمت في إقصاء نسبي للقطاع الخاص من سوق التسليف، ولاسيما الزراعي منه، فسياسة سد الدين بالدين من خلال اصدارات سندات خزينة بفوائد عالية جداً كانت تصل في التسعينيات الى 35% و40% واليوم الى نحو 7.75%، تجعل من الإقراض للدولة هدفاً للمصارف في سبيل مراكمة الأرباح. ولكن ماذا عن مسؤولية الدولة ومؤسساتها ووزاراتها حيال ذلك؟ وماذا عن موازنات الوزارات الإنتاجية؟ وماذا عن غياب الخطط التحفيزية في هذه الوزارات؟