استدعاء القوات ترافق مع استنفار في مناطق بعيدة جداً
مجموعة من قوة الدعم تنتقل لتثبيت النقاط المحررة
قبل نحو سبعة أشهر، خاض مقاتلو المقاومة معركتهم الواسعة الأولى مع مجموعات المسلحين في جرود السلسلة الشرقية، خصوصاً في جرود نحلة وفليطا ويونين. أُطلق على العملية يومها اسم «قائم». بعد أيام، نجح حزب الله في السيطرة على مناطق أمّنت إبعاد المجموعات المسلحة عن الجرود والتلال المطلة على قرى في منطقة بعلبك. لكن المقاومة أخفقت، يومها، في السيطرة على كامل التلال المشرفة. فيما عادت المجموعات المسلحة وشنّت، في تشرين الثاني الماضي، يوم عيد الفطر، هجوماً واسعاً أدى إلى سقوط نحو 11 شهيداً للمقاومة قبل أن يعود المسلحون إلى مواقعهم من دون احتلال مواقع جديدة
ابراهيم الأمين
مع انتهاء المناورات التدريبية والمباشرة بخطة التنفيذ، تولت وحدات النقل استقدام المجموعات المقاتلة، بأعداد كبيرة، للانتشار على خط المواجهة المفترض. تم ذلك على مدى أيام، بحيث لم يكن ليتسنّى لأي مراقب، وخصوصاً مجموعات المسلحين، وضع تقدير دقيق لحجم القوة المهاجمة أو كامل انتشارها. وكانت القيادة قد حسمت نهائياً أسماء الضباط الذين تولوا قيادة السرايا والفصائل والمجموعات ومواصفاتهم.
خلال فصل الشتاء، تساقطت الثلوج بكميات كبيرة، وغطت الدشم والمواقع التي ينتشر فيها رجال المقاومة. أخلى المسلحون، من جهتهم، كل النقاط المرتفعة المقابلة، وانسحبوا نحو المنخفضات التي تقودهم إلى جرود عرسال حيث الطقس أقل حدّة. وكانت الصعوبات المناخية تحول دون القيام باستطلاع ميداني من النوع الذي تحتاجه القوى المهاجمة. فقط كان يجري تأمين المؤن للمقاومين من خلال زلاجات خاصة بالثلج.
وعند اكتمال الحشد، بدأت المجموعات على الأرض تتبلغ التعليمات النهائية. ومنعاً لأي مفاجأة، تقرر حشد سرايا إضافية للتأمين وللاحتياط، أخذاً بالاعتبار احتمال نشوب مواجهات قاسية، خصوصاً أن القرار كان بالسيطرة على كامل المنطقة بأي ثمن، علماً أن آليات العمل تفترض، ضمناً، وضع تقدير لحجم الإصابات المتوقعة، سواء شهداء أو جرحى. وهو ما يفرض إجراءات إضافية تخص وحدة الإسعاف الحربي، وكذلك وحدات النقل.
سبق تحديد الساعة الصفر لإنجاز آخر المناورات، وتسمى مناورة «استدعاء وجهوزية»، وقررت المقاومة أن تفعل ذلك علناً وأمام الجميع، في ما بدا أنه رسالة إلى أكثر من جهة. وهي مناورة تلازمت مع استنفار إضافي في عدد من المناطق، بما فيها البعيدة جداً عن منطقة العمليات، إذ كان المقصود تحذير العدو الإسرائيلي من التدخل، وإفهامه أن المقاومة مستعدة لخوض المواجهات على أكثر من جبهة، وكذلك كانت تهدف إلى بث الرعب في صفوف المسلحين الذين اعتبروا أن ما شوهد ليس سوى جزء من القوات المجمعة لتنفيذ العملية.
بعد ذلك، ثبتت القيادة عملية تقسيم المحاور، وقسمت الجرود اللبنانية إلى مقطعين، يتصل أحدهما بجرود نحلة، والآخر بجرود يونين، مع التقدم شرقاً، حيث يجري في مرحلة معينة التواصل مع المجموعات القادمة من الجانب السوري من جهة معسكر الكهف التابع لـ»جبهة النصرة»، بين جرود رأس المعرة السورية وجرود نحلة اللبنانية، وسلسلة جبال الباروح ومعبر الفتلة الذي يربط جرود عرسال بجرد رأس المعرة السورية ثم بجرود نحلة اللبنانية، وهو الشريان الأساسي للمسلحين كخط عبور باتجاه عرسال وجرودها.
يوم السبت، في الثاني من أيار، كان الموعد الأول. بعيد منتصف الليل، تقدمت مجموعات من وحدة الاستطلاع داخل الجرود المحتلة قبالة نحلة. سار المقاومون نحو ثلاثة كيلومترات شرق منطقة بريتال، حيث تبين أن نقاط المسلحين باتت خالية. تمركز المقاومون في هذه المواقع. لكن عمليات المراقبة دلت على أن المسلحين عمدوا إلى إخلاء العديد من النقاط المتقدمة، وتراجعوا إلى نقاط ومواقع أكثر تحصيناً. طلبت المجموعات الإذن بالوصول إلى النقاط مباشرة وليس إلى مسافة منها، وتبين أيضاً خلوّها من المسلحين. لكن هذه المجموعات بقيت في مكانها، وذلك ربطاً بقرار الهجوم المفترض فجراً.
عملياً، لم تستمر العملية لأن قرار المواجهة المباشرة لم يكن قد اتخذ بعد. وحصل في الخامس من أيار، أن أطل السيد حسن نصرالله ليعلن في خطاب متلفز أن «المعركة محسوم أمرها، لكن الزمان والمكان لن يتم الإعلان عنهما».
كان خطاب السيد هو كلمة السر التي انطلقت على أساسها المجموعات لتنفيذ المهمات.
تقرر أن تبدأ العملية عند الخامسة والنصف من صباح الأربعاء. لكنها تأخرت في أحد المقاطع لنحو عشر دقائق بسبب خلل عولج فوراً. وبين خطاب السيد وموعد العملية، تقدمت مجموعات الهجوم الأولى صوب النقاط التي يتمركز فيها المسلحون، ووصلت إلى مسافة تبعد أقل من نصف كيلومتر، حيث كان يتاح لها مراقبة كل ما يجري، وكانت مجهزة بأجهزة رؤية ليلية تمنحها أفضلية التعرف إلى كل ما يجري من حولها. وهي كانت تزود لحظة بلحظة بالمعلومات الواردة من وحدة المعلومات التي تعمل على «متابعة لصيقة» لقيادة المسلحين ومجموعاتهم.
عند السادسة إلا ثلثاً، بدأت العملية دفعة واحدة. خلال أقل من نصف ساعة، كانت وحدة الإسناد الناري تستخدم مدافع مختلفة الأنواع، وتولت قصف جميع النقاط المستهدفة بكثافة نارية كبيرة جداً، جعلت المسلحين يبدأون بعملية الفرار وإخلاء النقاط. ثم طلب إلى المجموعات التقدم مباشرة صوب النقاط.
في هذه اللحظة، تتحول السرية إلى جيش مستقل، لأن مجموعاتها لا تشمل فقط قوة الاقتحام وقوة الإسناد، بل تملك أيضاً الوحدات الخاصة بالمدفعية الموضعية، وهي عبارة عن راجمات صواريخ صغيرة من عيار 57، والصواريخ الموجهة عن بعد من مختلف الأنواع، بالإضافة إلى قاذفات ب 7 و ب 29 وب 10. وقد تولت هذه المجموعات الاقتراب مباشرة صوب نقاط التمركز. وفي بعضها كان واضحاً أن المسلحين فروا عند بدء التمهيد المدفعي، وفي مواضع أخرى، حصل أن خرج مسلحون من بين الصخور وبدأوا بإطلاق النار على القوة المهاجمة، وحصل التحام على بعد أقل من مئتي متر في بعض النقاط، وعمدت القوة المهاجمة إلى اعتماد الرمي المركز، بحيث لم يكن إطلاق النار عشوائياً، حتى من الرشاشات المتوسطة، وهو مكّن من تركيز الإصابات المباشرة في صفوف المسلحين الذين لجأوا إلى جمع قسم من قتلاهم والمصابين وعمدوا إلى استخدام الدراجات النارية للخروج من منطقة العمليات، سالكين الطرقات المؤدية إلى نقاط خلفية، ومنها إلى جرود عرسال.
بعد تقدم مجموعات الهجوم، كانت مجموعات التأمين والتثبيت تسير خلفها، ومعها جرافات تتولى شق الطرقات التي ترسم خريطة حركة للمقاتلين وآلياتهم الخفيفة أو المتوسطة في كل منطقة العمليات. وقد قامت الوحدة اللوجستية، خلال أيام قليلة جداً، بشق عشرات الطرقات في هذه المنطقة الوعرة، ويصل طولها مجتمعة إلى أكثر من 200 كلم. وتم رسم خريطة الطرقات ووضع العلامات التي تدل المقاومين على آلية التحرك، بينما كانت آليات الدعم الخلفية تتقدم صوب المناطق التي يُسيطَر عليها.
وخلال يومين، كان المقاومون قد أنجزوا السيطرة على الجرود، وصولاً إلى مرتفع ضهر الهوا شمال شرق يونين الذي تبلغ مساحته 6 كلم، ويتضمن المرتفع تلالاً عدة، أهمها تلة الراية (2330 م) التي تشرف مباشرةً على جرود عرسال، إضافة إلى بعض معابر المسلحين غير الشرعية من جرد عرسال إلى جرود رأس المعرة السورية.
وفي جرود نحلة اللبنانية، تمت السيطرة على مواقع عقبة البيضاء، وقرنة عبد الحق، وعقبة الفسخ الجنوبية الاستراتيجية غرب جرد رأس المعرة، التي تشرف على معابر المسلحين التي تؤدي إلى جرود عرسال اللبنانية، وصولاً إلى معبر الفتلة، بعدما نجحت المجموعات الإضافية في تثبيت وجودها على مرتفع الخشعات والمطل والشجرتين والقمع الصخري.
في ذلك الوقت كان الطقس لا يزال قاسياً، وفي لحظة الهجوم كانت الحرارة لا تزال عند حدود الصفر، بعدما كانت قبل ذلك بساعات قد لامست ست درجات تحت الصفر. وقد انتشر المقاومون في العراء خلال ساعات طويلة. بكامل تجهيزهم لناحية اللباس والتجهيز العسكري الذي يشتمل على دروع وقفازات وجعب عسكرية وذخيرة إضافية وأجهزة الاتصال وكاميرات خاصة للتصوير تُثَبَّت في أحد جوانب الخوذة العسكرية، بالإضافة إلى حمولة تخص أوقات الاستراحة أو عبوات يُلجأ إليها خلال مرحلة الهجوم.
خلال عمليات التقدم، اكتشف المقاومون أن الصور الجوية التي كانت بحوزتهم، لم تكن تكشف عن مداخل بعض المغاور الطبيعية بصورة جيدة، وهو ما ألزمهم التقدم بحذر صوب هذه المغاور والاقتراب صوبها لتفقد ما يوجد داخلها بعد الرمي عليها عن بعد ثم عن قرب واستخدام ما يلزم، بما في ذلك القنابل اليدوية. وخلال ساعات النهار، استُعين بالطائرات المسيَّرة التي تغطي أماكن المعركة.
وتم اللجوء إلى طائرات جديدة ترتفع على مسافة معينة، لكنها تتقدم المجموعات وتبث لهم مباشرة الصور عن الأماكن التي يتقدمون صوبها. وقد نجح المسلحون في إصابة إحدى هذه الطائرات، لكن المقاومين عادوا وانتشلوها من الأرض.
لكن المفاجأة الكبرى، تمثلت في العبوات الناسفة التي زرعها المسلحون في كل المنطقة، وعلى طول الطرقات التي افترض المسلحون أنها ستكون ممرات المقاومين. وهنا تدخل أفراد وحدة الهندسة في الفصائل والسرايا المتقدمة، وبدأت عمليات الفحص، حيث تبين أن «التشريكات» رُكِّبَت بوسائل متنوعة، بينها البدائي الذي يتطلب أن يمسّ المقاومون شريطاً أو لغماً أرضياً موصولاً فيها، أو تلك المتطورة التي تعتمد على آلية وصل مجموعة من العبوات بعضها ببعض. وخلال ثلاثة إلى أربعة أيام، واصلت وحدة الهندسة تفكيك العشرات من هذه العبوات وتفجيرها، خصوصاً أنه في مرحلة من الهجوم حصلت مفاجأة إضافية.
عند الوصول إلى نقطة أطلق عليها المقاومون رقماً عسكرياً هو 102، طلب قائد المجموعات المهاجمة تثبيت المواقع، وهي عملية تشمل انتشار الأفراد من المقاتلين والقناصين ووحدات الصواريخ المضادة ضد الدروع في نقاط مشرفة، لكنها تكون محصنة من الناحية الطبيعية، ليكتشف أن المسلحين يحاولون الاستعانة بسيارات كبيرة والتقدم للإمساك بنقطة عسكرية لهم كانوا قد أقاموا فيها الدشم الكبيرة.
وهنا طلب إلى مجموعة، الانتقال برفقة رجال وحدة الهندسة إلى تلك النقطة، حيث جرى تفخيخ الدشم، ثم تفجير النقطة بعد اقتراب المسلحين منها. وفي جانب آخر، دمرت صواريخ الكورنيت الآليتين، ما دفع المسلحين إلى الانسحاب سريعاً.
في هذه الأثناء، لاحظ قائد الهجوم أنه أنجز كل المطلوب منه، وبعد التواصل، تبين أن القوة المهاجمة على أكثر من منطقة قد أنجزت العملية كلها. لكن قائد المجموعات الموجودة عند النقطة 102 طلب الإذن باستطلاع نقطة أخرى، تقود إلى محلة تسمى «الحسواتي»، وقاد عملية استطلاع سريعة في المنطقة، ليرفع تقريراً سريعاً يطلب الإذن بالتقدم والسيطرة على هذه المنطقة مباشرة.
وقد أُعطي الإذن، ليعمد خلال ساعات قليلة إلى التقدم في كل هذه المنطقة، حيث وجد المغاور الكبيرة، ومركز عمليات تابعاً لجبهة النصرة، والأهم، اكتشاف وحدات الهندسة مصنعاً كبيراً للمتفجرات. وعُثر على أطنان من بودرة الألمنيوم والنيترات التي تُستخدَم في صناعة المتفجرات، إضافة إلى قوارير مياه كبيرة من الحديد تُعَبّأ بالمتفجرات وتوضع داخل سيارات انتحاريين.
وبعد إنجاز هذه المهمة الإضافية، كانت المجموعات القادمة من الجانب السوري قد وصلت إلى نقطة التقاطع. وسرعان ما نُفِّذ إجراء خاص بوحدة الإشارة، ما يعني التقاء المجموعات بعضها مع بعض. ومن هناك، سار المقاومون في آخر بساتين الكرز التي تتبع عملياً لأهالي عرسال. ومن المقلب كان بإمكانها الإشراف عملياً على جرود عرسال.
كانت وحدات المقاومة بالتعاون مع الجيش السوري ومجموعات شعبية قد بدأت بالتوازي الهجوم من الجانب السوري، وتقدمت القوات شمال الطفيل. وفي المرحلة الأولى سارت عبر جرد عسال الورد باتجاه جرود بريتال، وبعد معارك عنيفة من الجهتين، التقت القوات على قرنة تلال النحلة ومعبر الصهريج، لتنتهي المرحلة الأولى من العمليات بالسيطرة على كامل جرد عسال الورد وربطه بجرد بريتال، مع استمرار التقدم من جرود الجبة على محورين رأسيين باتجاه التلال القريبة وتلال الباروح الاستراتيجية. لتنحصر المواجهات لاحقاً في النقاط المتقدمة شمالاً وغرباً على التلال التابعة للمرتفع حيث تقع تلة موسى.
الإعلام الحربي: نسخة جديدة
أُخذ على حزب الله أن وحدة الإعلام الحربي لم توفر في حرب تموز عام 2006 الصورة التي تعبّر عن حجم المواجهة. حصلت مراجعة وظهرت الأسباب التي كانت خلف هذا الخلل، وهو ما جعل المقاومة تستفيد منه في كل عمليات البناء اللاحقة. جاء الاختبار الأول في تغطية المواجهات الدائرة في سوريا، حيث تحول الإعلام الحربي إلى وحدة أساسية، وعمد إلى إدخال تعديلات أتاحت له إنشاء وحدة رصد وبث المعلومات التفصيلية عن الميدان، بما فيها الأخبار المتداولة في جانب الأعداء. وترافق ذلك مع انتشار كثيف لعناصر هذه الوحدة على كل جبهات القتال، وتوفير كمية ضخمة جداً من الصور والفيديوهات التي عكست واقع القتال وكفاءة المقاومين. كذلك نجحت هذه الوحدة في كسر قواعد سابقة، من خلال إشراك إعلاميين من مؤسسات خاصة لبنانية وسورية وعربية وإيصالها إلى مناطق المواجهات.
منذ 4 سنوات إلى اليوم، يقدم الإعلام الحربي في المقاومة درساً جديداً في الحرب النفسية ضد العدو، ليس ضد المقاتلين الذين يقفون في وجه المقاومين، بل ضد قواهم وجمهورهم، وسيصار في يوم ما، إلى الكشف عن دور هذه الوحدة في تسهيل إنجازات عسكرية وميدانية.