وسام سعادة
أمام الكنوز الحضارية لمدينة تدمر بالتحديد، وقف الرحالة والمستشرق والسياسي الفرنسي الكونت دو فولني في أواخر القرن الثامن عشر، يحدّث الآثار الباقية من شرق العصر القديم، فيطيب له أن يروي كم كابد المشقات للعروج اليها، في حين ينظر اليها الشرقيون في عصره إما بارتياب وإما بانعدام مبالاة.
وضع فولني في عصره، تصوّراً تدمرياً لحال الشرق، جرى استثماره لاحقاً استشراقياً .. واستعمارياً.
اعتبر أن الآثار الباقية من العصر القديم فيه مفصولة تماماً عن حاضره، فناجاها، ثم تكلّم باسمها، معتبراً أنّ ما كان في الماضي حضارة مجيدة صار اليوم ركام حضارة، وأنّ ركام الحضارة الذي يفسّر حال الشرقيين، يفصلهم أيضاً عن أي تفاعل مع ركام الآثار الباقية، كحال الكنوز الساطعة وسط الصحراء، لمدينة تدمر.
اليوم، والموضوع يحتسب ساعة بساعة، تتعرّض هذه الكنوز لخطر تبديدها، بالتحطيم، مع تسييل الفتات في قنوات مافيا الآثار. الكارثة المحدقة بتدمر هي جزء من الكارثة السورية العراقية الكلية، وهي أساساً كارثة تحول نظام آل الأسد الى نظام احتضار دموي مزمن، وهي جزء من النكبة الاركيولوجية التي بدأت بتدمير الأسديين لحلب وتدمير آثار شمال العراق على يد عناصر “داعش”. نحن عشية حدث كوني لا يزال الكثيرون منا لا يحتسبون خطورته، ولا ينفع مداراته بالتلهي بثنائية “البشر أو الحجر”. التقاطع بين نظام أسدي متهالك، وبين حيوية تنظيم “داعش”، على تدمير تدمر، وتحويلها الى حدث كوني، الأول للبحث عن طوق لنجاته في هبّة إسلاموفوبيا عالمية، والثاني لإظهار القسمة الكونية بينه وبين باقي العالم، لا طرف ثالثاً، هذا التقاطع، وعلى أرض تدمر بالذات، يتجاوز بأبعاد، كل ما يحصل على جبهات أخرى.
لم تعد نظرة الشرقيين لآثار العصر القديم كما وصفها فولني في عصره، هذا إذا سلمنا جدلاً بما كتبه عن قلة اكتراثهم، أو تحفظهم، على هذه الشواهد الباقية. في الوقت نفسه، لم تستطع الكيانات الوطنية المشرقية في مرحلة ما بعد الاستعمار أن تتعامل مع آثار العصر القديم بشكل سليم. “العروبة”، بالشكل الذي اعتمدت، تحسست من هذه الآثار، أو حاولت “تعريب” العصر القديم نفسه، بكاريكاتيرية شعاراتية من قبيل “بابل من نبوخذ نصر الى صدام حسين”. وبالتوازي، من بحث عن هويته الضائعة وراء هذه الآثار، أظهر من جهته، نزوعاً للمكابرة على الطابع العربي الإسلامي الغالب منذ قرون عديدة على هذه المجتمعات. الى حد كبير، بقيت تدمر وأخواتها مجرّد توظيفات مشهدية لمفهوم “العراقة” يستخدمه كلّ في اتجاه اعتباطي، في حين أن التوظيف العملي الغالب كان اعتبار هذه الآثار تعني السواح الأجانب أولاً.
فولني طوّر نظرة استشراقية طريفة وهو يحدّق في آثار تدمر. نظر فقال إنّه لم يبق من العصر القديم إلا ركام حضارته، وأن شعوب هذه المنطقة، عريقة في الحضارة لكنها لم تعد تمارسها، بل صارت في غفلة، ولا بدّ من إيقاظها، ولا بد أن يتم ذلك من خارجها، ومعروف كم غذّت أفكار فولني مخيلة الجنرال نابليون بونابرت وصولاً الى تنفيذها في الحملة على مصر وبلاد الشام.
لكن أن يحوّل ركام العصر القديم المتبقي من خلال آثار تدمر واخواتها الى ركام بدوره، فهذه لم يكن يحتسبها فولني. التقاطع بين نظام آل الأسد وبين تنظيم “الدولة” والذي يتجه لتدمير هذا الميراث الحضاري هو رد ثنائي على فولني. بشار الأسد يقول: “أنا الحضارة المستمرة منذ العصر القديم الى اليوم، وأنا التنوير كله، وإلا فعلى الدنيا الظلام”. ابو بكر البغدادي يقول من بعده: “وأنا الحداثة المطلقة التي لا تبقي قديماً في هذه الأرض، في مقابل الحداثة النسبية التي كانت متعايشة مع هذه الآثار من أجل سائح”.
فولني كان يناجي الركام. ركامنا الآن يناجي فولني. كانت تهمة المستشرقين أن آثار العصر القديم في بلادنا تشهد على انفصال حاضرنا عن المجد القديم، فجاء التبرؤ من هذه التهمة على شكل مصادرة أسدية لـ”التنوير” في مقابل مصادرة داعشية لـ”الحداثة”.