لا تزال توقعات الانتعاش عالمياً مجرد توقعات هَشّة غير مستندة الى عوامل ثابتة. أمّا الذي شهدته بعض الدول في الربع الأول من السنة الحالية فقد يكون غير كافٍ لإبداء آراء سلبية او إيجابية في ما يختصّ بوضعها الاقتصادي المستقبلي. مع العلم انه توجد مؤشرات قصيرة الأمد تعطي إشارات إيجابية، فيما تبدو المؤشرات الطويلة الأمد أقلّ تفاؤلاً، لا سيما أنّ المعطيات العالمية وتطور الأحداث قد تأتي نقيض ما نراه حالياً.
تنتظر رئيسة الفدرالي الأميركي جانيت يلين ما قد يتأتّى في الربع الثاني من العام، من اجل إعادة أسعار الفوائد الى مسارها الطبيعي، وهذا ما يراهن عليه ماريو دراغي الرئيس المركزي للبنك الاوروبي.
هذا النقيض بَدا واضحاً في الربع الاول من السنة الحالية، حيث بَدت مؤشرات الاقتصاد الأميركي ضعيفة، بينما وعلى عكس ذلك بَدت هذه المؤشرات وفي العديد من دول اوروبا متفائلة.
قد يكون النمو الذي حققته فرنسا، وهو الأسرع منذ العامين الماضيين، غير كاف لإحداث ثغرة في الاقتصاد الفرنسي ويؤثّر بشكل مباشر على بطالة ما زالت تزيد عن الـ 10 في المئة، والتفسير الوحيد لهذا الانتعاش المفاجئ في الاقتصاد الفرنسي هو رخص سعر الطاقة والمواد الغذائية وضعف اليورو وطباعة النقود من قبل المركزي الاوروبي منذ مطلع هذا العام.
وهذا لا يعني اقتصادياً انّ الامور سوف تستمر على هذه الحال، لا سيما انّ المؤشرات العالمية تبقى رهناً بتحركات الفيدرالي الاميركي وإمكانية رفع اسعار الفوائد بين حزيران وايلول من العام الحالي.
لذلك، لا يمكن القول، واذا ما أخذنا فرنسا على سبيل المثال، انّ ذلك يعني نهاية المشاكل في فرنسا، لا سيما انّ البلاد لا تزال تستفيد أقلّ من غيرها من الانتعاش الاخير، وعلى عكس العديد من الدول الاوروبية الأخرى، لا سيما إسبانيا، إذ إنّ المحللين يعتقدون انّ فرنسا لم تضع نفسها بعد على الطريق السليم للأشهر والسنين القليلة القادمة.
وحسب وكالة الاحصاءات الفرنسية INSEE انه وعلى رغم انتعاش الناتج بسبب زيادة الانفاق، الّا انّ الاستثمار تراجع للشهر السابع على التوالي. لذلك، وحسب Claus Vistesen فإنّ إنفاق المستهلكين عامل مشجّع بينما الاستثمار في القطاع الخاص لا يزال ضعيفاً، وهذا ما يجعل فرنسا متخلّفة عن عدة أعضاء في منطقة اليورو.
لذلك، قد تكون التحديات التي تواجه فرنسا حالياً قوية على رغم ما أظهرته وقائع النمو في الربع الاول. وحسب Maxim Sbaihi أحد اقتصاديي بلومبرغ «يجب على فرنسا تكرار أداء الربع الاول لمواجهة انخفاض الاستثمارات ومواجهة البطالة المرتفعة».
وقد يساعد في ذلك مجموعة متكاملة من الحوافز يقوم بها البنك المركزي الاوروبي، لا سيما شراء 101 تريليون يورو من سندات الحكومة في ايلول 2016، ما يعني تراجع أسعار الفوائد وكذلك اليورو، ما يجعل أوروبا بالإجمال والشركات أكثر قدرة على المنافسة عالمياً.
ولكن يبقى هذا السيناريو فاعلاً في حال لم يأخذ الفيدرالي الاميركي خطوته المرتقبة في رفع اسعار الفوائد، إذ انه كما سبق وذكرنا مراراً وتكراراً انّ ذلك يعني هروب الاموال الى اميركا، كذلك يعني انّ عملية شراء السندات قد لا تكون فعّالة بنفس النسبة المنتظرة كما يقول دراغي، وقد ينتج عنها هروب الاستثمار بشكل قوي نحو الدول حيث الفوائد مرتفعة، ومن ضمنها أميركا.
لذلك، فإنّ فترة الانتعاش هذه، والتي برزت في الربع الاول من السنة الحالية، قد تكون مؤقتة وغير مؤكد استثمارها الّا من ناحية القدرة على المنافسة للصناعات في منطقة اليورو نتيجة انخفاض اسعار العملة وزيادة الانفاق.
لذلك، قد لا تنسحب فترة الانتعاش هذه على الربع الثاني، وقد لا تأتي عملية التسيير الكمّي نتائجها المرجوّة. والجدير ذكره ايضاً هو انّ النمو ضعيف في المانيا، أكبر اقتصاديّات المنطقة، كذلك في المملكة المتحدة. مع العلم انّ توقعات المفوضية الاوروبية لاقتصاد منطقة اليورو تبدو متفائلة وقد تصِل نسبة النمو الى 1,9 في المئة في بعض الدول.
يبقى انّ تشابك هذه الامور وتباينها بين الدول يعطي فكرة واضحة عن عدم استقرار الوضعية الاقتصادية في دول منطقة اليورو، والتي تبقى مؤشراتها مؤقتة ريثما تتّضِح الامور في الربع الثاني من العام 2015 واذا ما كانت أسعار النفط ستبقى على حالها وضعف اليورو، وكذلك الفوائد الاميركية التي لا بد أن تنعكس سلباً على الاستثمار في منطقة اليورو.
أضِف الى ذلك توقعات بنك فرنسا الذي يتوقع تراجع النمو الى 5,3 في المئة في الربع الثاني. وبينما تتأرجح الامور في أرجاء اوروبا بين نموّ غير متوقع وتراجع غير منتظر، تبقى الصورة العالمية للوضع الاقتصادي على حاله وفي حالة ترقّب غير متفائلة.
الّا انّ ما يثير الاهتمام هو وضعية المصارف في المنطقة، والتي ما زالت تعاني مشاكل وتحديات أقلّها:
١- ميزانيّات المصارف وكيفية التعامل مع مخلّفات الازمة المالية كذلك كيفية التعامل مع مخزون القروض غير العاملة والمتعثرة، ممّا يؤثر على أرباحهم. أضف الى ذلك بطء الاجراءات وسوق ديون متخلّفة.
٢- التكيّف مع موجة جديدة من التنظيم منذ الأزمة وتحسين كمية رأس المال ونوعيّته في الأجل القصير على الاقل.
٣- المصارف تواجه تغييرات هيكلية عميقة وزيادة المنافسة في الخدمات المصرفية بشكل عام ووجود شركات جديدة في أسواق البيع بالتجزئة والتي كانت على المصارف، مثل Pay Pal وغيرها.
إنّ هذه الامور تمثّل تحدياً فريداً لبيئة المصارف الاوروبية، وهذا واضح في الأداء المالي الضعيف عموماً، وقد يكون لعملية التسيير الكمّي آثارها السيئة على المصارف الاوروبية بشكل عام، لا سيما المتشائمين واعتقادهم بأنّ هذه السياسة وجدت خصّيصاً لمساعدة المستثمرين، هذا مع العلم انّ سياسة مالية أقلّ تشدداً تساعد المصارف من ناحيتين: الأولى يمكنهم اقتراض المال بأسعار فوائد منخفضة جداً.
ومن ناحية اخرى إنّ أيّ محاولة من قبل المركزي الأوروبي للتأثير على عوائد السندات تعني التأثير صعوداً على أسعارها، ما يعني استبعاد سيناريو متشائم جداً لهذه العملية، وهي انّ المصارف الاوروبية قد تستغلّ هذا التدنّي في أسعار الفوائد وتوظّف أموالها حيث الفوائد مرتفعة ما يدلّ على أنها سوف تترقّب وضعية أسعار الفوائد في اميركا وكيفية تحرّكها.
كذلك، هنالك خدعة أخرى قد تقوم بها المصارف ما يساعد في تقويض عملية التسيير الكمّي ونتائجها المرجوّة على الاقتصاد، حيث تقترض المصارف المال لفترات قصيرة وتقرض لفترات طويلة، ما يعني أسعار فوائد على القروض الطويلة الاجل أعلى بكثير من تلك التي على القروض القصيرة الاجل.
أخيراً وليس آخراً، الموقف الحَرج للمُقرضين الاوروبيين ومواجهة الضرر المترتب عن القروض الى اليونان وروسيا كذلك الى شركات النفط المتعثرة.
لذلك، هذه الجوانب المختلفة من الازمة الاوروبية لا يمكن ان يحلّها ربع واحد من النمو أو ربما سنة وأكثر، ويبقى الأمر متعلّقاً بديناميكية السوق وأسعار الفوائد والتطورات السياسة في منطقة اليورو ومع حلفائها التجاريّين.