جون بول راثبون
إنه يوم حار في وسط هافانا والبواب في مبنى “باليه التلفزيون” نائم في هذا الجو الحار. لكن في الطابق العلوي، توبي جوف، المُتعهد البريطاني، يقوم بحثّ تسعة راقصين كوبيين على العمل بجد. العرض الذي يتدربون عليه، الليدي سالسا، سيبدأ في ألمانيا بعد أقل من أسبوعين.
جوف يحثّ الفرقة بعد القيام بالوصلة الافتتاحية قائلاً: “أرجو إظهار مزيد من روح القتال! أبقوا عيونكم إلى الأمام! انخرطوا أكثر، من فضلكم!”.
الاستديو ذو الأرضية الوعرة شهد أياماً أفضل؛ القضبان بالية، والدهان بلون الطين الأخضر يتقشّر عن الجدران، واثنتان من المراوح البلاستيكية تنشران الهواء الجاف.
إنه وضع غير محتمل بالنسبة لجوف، المُروّج العالمي الذي أحضر ذات مرة فيلا يسبح إلى نجمة البوب كايلي مينوج، بعيداً عن المصورين الصحافيين، بعد عرض خيري في سريلانكا.
مع ذلك، لأكثر من عقد من الزمن، هذا الرجل واسع الحيلة البالغ من العمر 44 عاماً من ساسكس، جعل قاعدته هنا في هافانا، مصدر مواهب الرقص لعدة عروض سياحية.
فرقته ومشهد الرقص الأوسع في كوبا يوفّران وجهة نظر مُعبّرة عن التغيرات على هذه الجزيرة الاشتراكية.
عمل جوف الأول لعرض الليدي سالسا، وهي رحلة مثيرة لمدة ساعتين عبر التاريخ الموسيقي الكوبي، تمتّع بجولة أوروبية تم بيع التذاكر فيها بالكامل في عام 2000.
بعد 15 عاماً، يقوم بإحياء العرض، الذي يتبع قصة حياة سيمورا فالديس، المُغنية البالغة من العمر 75 عاماً التي غنّت في نادي تروبيكانا الليلي قبل الثورة وقامت بتعليم نات كينج كول رقصة الرومبا.
داعمو جوف الأوروبيون يعتبرون أن إعادة إحياء عرض الليدي سالسا فرصة للاستفادة من الاهتمام الجديد الطائش بكل شيء كوبي.
وهذا الاهتمام انفجر منذ إعلان الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2014 أنه بعد 50 عاماً من الحرب الباردة، تسعى واشنطن الآن إلى تحقيق الانفراج في العلاقات مع هافانا.
يقول جوف: “نحن بحاجة إلى مقدمة جديدة. هل لا يزال بإمكاننا الحصول على: أهلاً وسهلاً بكم في كوبا، الجزيرة التي على شكل تمساح، التي تعضّ قدم الولايات المتحدة؟ ماذا عن “قضم” أو “تقبيل” بدلاً من ذلك؟”.
تقدّم بطيء
هناك مُفارقة لطيفة هي رد الفعل الكوبي المشترك إزاء احتمال التقارب الأمريكي – الكوبي.
يقول مسؤول من وزارة الخارجية: “من السهل جداً التقدّم بصورة أبطأ”. كذلك يشعر المسؤولون في الولايات المتحدة بالحذر.
يقول أحدهم: “هناك كثير من الافتراضات حول المدى أو السرعة التي يمكن أن يعمل بها المسؤولون التنفيذيون في الولايات المتحدة”. ويضيف: “غالباً لا يأخذون في الحسبان كوميديا الأذرع المختلفة الموجودة في حكومتنا”.
لكن النهاية المتوقعة للحظر التجاري الأمريكي، الذي يتطلب إجراءً من الكونجرس، أطلقت العنان لكرنفال من التوقعات. الشركات الأمريكية الكبرى مثل مجموعة سيتي، التي خسرت ثروة في كوبا بعد تمويلها ازدهار وكساد سعر السكر فيما عُرف بـ “رقصة الملايين” عام 1920، قالت إنها تُريد العودة.
كذلك ويتصارع زعماء العالم والشركات الأجنبية لتحديد مناطقهم قبل الغزو الأمريكي المُفترض.
هذا الشهر وحده، راؤول كاسترو، رئيس كوبا البالغ من العمر 83 عاماً، التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ والبابا فرانسيس؛ وماتيو رينزي، رئيس الوزراء الإيطالي؛ وفرانسوا هولاند، أول رئيس فرنسي يزور هافانا منذ قرن – ومن المحتمل ألا يكون آخر زائر اشتراكي يترك الانتهاكات في مجال حقوق الإنسان في كوبا دون ذكر. كتبت الصحافية المُعارضة، يواني سانشيز، في مقالة على موقعها الإلكتروني، 14ymedio.com: “كم عدد الشخصيات الأجنبية (…) التي جاءت؟ لم نعُد نعرف. لكن وجودهم اللامع جلب بعض الارتياح للحياة اليومية في كوبا”.
هذا بالتأكيد صحيح فيما يتعلق باقتصاد كوبا. قبل سبعة أعوام بدأ كاسترو عملية إصلاح مؤقتة، تتضمن السماح بالعمل الحرّ، وبيع السيارات والمنازل، وكذلك السماح بتوحيد -يجري النقاش بشأنه- نظام العملة الضخم في كوبا.
وتهدف عملية الإصلاح إلى ثلاثة أشياء: تعزيز النمو الضعيف، والاحتفاظ بالشباب المُحبط الذي يُهاجر إلى الخارج، وتحضير كوبا في حال أدت أزمة اقتصادية متفاقمة في فنزويلا إلى إنهاء مُساعدة بقيمة 1.5 مليار يورو تقدمها كاراكاس إلى هافانا كل عام.
من الناحية النظرية، الذهاب الذي لا مفر منه لما يُسمى الجيل التاريخي، الذي قاد ثورة عام 1959، يُضيف مزيداً من الإلحاح. وتُشير جداول الحياة الأكتوارية في الولايات المتحدة إلى أن متوسط العمر المتوقع للزعيم السابق فيدل كاسترو، البالغ من العمر 88 عاماً، هو أربعة أعوام أخرى.
لكن تدابير كاسترو فشلت في رفع النمو الذي تباطأ العام الماضي إلى 1 في المائة. كذلك القانون المُعدّل لم يفعل الكثير لتعزيز رصيد الاستثمار الأجنبي.
ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، الاستثمار الأجنبي البالغ 427 مليون دولار في عام 2011، لا يمثّل سوى جزء ضئيل في أماكن أخرى.
اللورد هاتون، أحد اللوردات البريطانيين الذي قاد 45 رجل أعمال بريطانيا في زيارة تجارية في نيسان (أبريل) ـ أبرم أحدهم صفقة كان قد تم التباحُث فيها لأعوام لبيع بذور البطاطاس إلى أحد مصانع رقائق البطاطا المقلية ـ يقول: “هناك استعداد بين الكوبيين للانتفاح أكبر مما كان قبل خمسة أعوام. لكن لا يزال أمامنا شوط طويل لنقطعه. الصبر مطلوب”.
بالتأكيد، بالنسبة لصحافي من “فاينانشيال تايمز” يعود إلى كوبا بعد عقد من الزيارات السنوية، لم يكن هناك تغيير يذكر في شوارع هافانا، ربما باستثناء الشعور بالأمل. الطعام الكئيب تحسّن بفضل المطاعم الخاصة الجديدة.
ولتلبية احتياجات السيّاح، يتم تجديد المنازل الخاصة – غالباً بتمويل من ملياري دولار سنوياً يرسلها الأمريكيون من أصل كوبي إلى أقاربهم. ويقول مسؤولون كوبيون إن تخفيف أوباما القيود المفروضة على السفر أدّى إلى ارتفاع في عدد الزوار من الولايات المتحدة بنسبة 20 في المائة هذا العام.
ونحو 600 ألف زائر جاءوا في عام 2014، على الرغم من أن ذلك يتضمن في الغالب المهاجرين الكوبيين.
مع ذلك يبقى الرقم أقل كثيرا من ثلاثة ملايين سائح أمريكي يُقدّر صندوق النقد الدولي أنهم قد يسافرون إلى كوبا في حال أصبحت العلاقات طبيعية. لكن الزيادة أدت بالفعل إلى توسيع قطاع السياحة في هافانا، وأدت كذلك إلى بعض سوء التفاهم المؤسف: عدد قليل من الزوار الأمريكيين أخذ أواني زجاجية من نادي تروبيكانا الليلي تذكارا لرحلتهم.
يولاندا، الراقصة في نادي تروبيكانا الليلي، تأسف قائلة: “إنهم لا يفهمون أن النوادل الفقراء عليهم دفع ثمن الأغراض المفقودة”. فمتوسط الأجر في الدولة هو 20 دولارا شهرياً.
كان هناك أيضاً انفجار في جولات العروض الفنية، وأصبح بإمكان الراقصين المستقلين العودة من جولة لمدة ستة أشهر مع ما يكفي من المال المُدّخر لشراء شقة أو سيارة.
راكاتان، العرض الديناميكي، كان في نيويورك في شباط (فبراير). وعرض باليه ريفولوسيون، المزيج غير المباشر للباليه وأسلوب الرقص الكوبي، سيتجوّل في أستراليا في حزيران (يوينو).
جميع هذه العروض يعتمد على موهبة تم صقلها من قِبل نظام رقص تم تصميمه على طريق الاتحاد السوفياتي. يقول آرون كاش، المُشارك في تصميم رقص عرض باليه ريفولوسيون، “إنها آلة”. ومثل كل الآلات، قد تكون فعّالة بشكل صارم في تحقيق التفوّق الفني.
ويتم توجيه الأطفال في سن مُبكرة إلى واحدة من الفئات الأربعة؛ الباليه، أو الرقص المُعاصر، أو الفولكلور، أو الكباريه. أحد النجوم الذين أنتجهم هذا النظام هو كارلوس أكوستا، على الرغم من أنه تم إنقاذ حياته المهنية من الغموض فقط بعد أن أخذته فرقة الباليه الوطنية الإنجليزية.
الحصار الداخلي
مثل نظامها الاقتصادي على النمط السوفياتي، يُمكن أن تكون آلة الرقص في كوبا خانقة بفضل ما يُسمى “الحصار الداخلي”، وهي عقلية رسمية من شأنها عرقلة تقدّم كوبا حتى لو تم رفع “الحصار الخارجي” غداً.
يعترف مسؤول وزارة الخارجية: “المواقف العقلية تعتبر بمثابة مُشكلة”.
التأثير المُذهل لهذا الحصار في كل مكان: في مكاتب الحكومة، حيث المسؤولون الذين يشعرون بالملل يرفعون استياءهم إلى مستويات جديدة؛ في النوادي التي تُديرها الدولة مثل تروبيكانا، حيث يدفع السيّاح 95 دولارا لمشاهدة الراقصين يمارسون مجموعة قديمة من الرقصات؛ وفي فرقة الباليه الوطنية التي يتم إدارتها بقبضة من حديد منذ أكثر من نصف قرن من قِبل أليشيا ألونسو، البالغة من العمر 93 عاماً، الكفيفة لكنها لا تزال تقوم بتصميم الرقصات. أثناء الجولات، غالباً ما يقوم النقّاد بالتعليق على “الرداء المُقيّد” الذي يرتديه راقصوها.
كذلك الحصار الداخلي بالتأكيد موجود في الشركات الكبيرة. إيدرميز جونزاليس، رئيس قسم التنسيق في مارييل، وهي منطقة تجارة حرة بقيمة 800 مليون دولار على الساحل الشمالي في كوبا، تعتبر حجر الزاوية لحملة الحكومة من أجل جذب الاستثمار الأجنبي، يقول: “أكبر مشكلاتي هي الصدمة البيروقراطية”.
هذا الحصار يعمل أيضاً على إحباط إصلاحات كاسترو المؤقتة، كما رأينا في الكافيتريا الصغيرة التابعة لزوميا جوتيريز. قامت جوتيريز بتجهيز المطعم في قريتها في محافظة مايابيك قبل بضعة أعوام. تقول إنها “تحب بلدها”، وإن معظم زبائنها هم من الأطفال الذين يعانون الجوع.
“أنا أحبهم وأحيانا أمنحهم فرصة إذا لم يكن لديهم المال”.
لكن على الرغم من هذا الإحساس المدني، إلا أن عمليتها رغماً عنها تعتبر أساساً غير قانونية. النقص وارتفاع الأسعار في المتاجر الحكومية يعني أن اللوازم الغذائية يمكن الحصول عليها فقط من السوق السوداء.
كذلك تشتري جوتيريز (تم تغيير اسمها) إيصالات بيع مزيفة، مقابل دولارين شهرياً، حتى تحظى حساباتها بالقبول من قِبل مفتشي الضرائب. أن تكون قادرة على شراء اللوازم بشكل قانوني، وبالجملة، تقول وعيونها مُشرقة، إن هذا من شأنه أن يغير كل شيء. لكن هذا ليس مُمكناً إلا مع الشركات الحكومية والجمعيات التعاونية المقبولة من الدولة.
علاوة على ذلك، القضاء على السوق السوداء من شأنه إنهاء مصدر نقود حيوي لجيرانها الذين يبيعون البضائع الحكومية المسروقة. تقول: “عندها لن يملك أي أحد النقود لشراء طعامي”. النتيجة، مثل كثير من الأشياء الأخرى في كوبا، هي عبارة عن طريق مسدود بشكل واضح.
يقول أحد الدبلوماسيين من شرق أوروبا: “كوبا تُذكّرني بإصلاحاتنا التدريجية قبل سقوط جدار برلين. كل عملية إصلاح تتطلب واحدة أخرى لجعلها فعّالة، وهكذا. لكن هافانا لم تُدرك بعد أنه، عندما يتعلق الأمر بالسوق، لا يصلح أن تكون المرأة حاملا قليلا. هناك بعض الأشياء التي لن تنجح تماماً”.
عودة إلى أستديو الرقص، تحوّل جوف إلى تدريبات الدراما النفسية لتطوير شخصيات راقصة وإضافة وزن روائي إلى العرض.
يقول: “كثير من الكوبيين يعتقدون أن باستطاعتهم الفوز بالتصفيق لمجرد الهزّ والرقص. لكن برامج التلفزيون، مثل برنامج المواهب البريطانية أو نجم البوب، جعلت الجمهور أكثر تطلباً (…) البراعة الفنية ليست كافية. عليك توفير الدراما، ذلك النوع الذي يُعطي الجمهور درساً عن الحياة”.
لطالما كانت كوبا تقدم الدراما للعالم، سواء كان الانحطاط المُفترض في هافانا ما قبل الثورة، أو التقشف الاشتراكي الذي تبعه. ما يمكن أن يحدث فيما بعد هو مجرد تخمين – ومعظم التخمينات حول كوبا كانت خاطئة في الماضي.
خطوة أوباما لتخفيف الحصار والقضاء عليه في النهاية تهدف إلى تحويل دائرة الضوء عن تكتيكات المُضايقة التاريخية التي تقوم بها واشنطن وتوجيهها إلى أوجه القصور في كوبا. مع ذلك، فرصة مفاجئة على غرار الثورة المخملية تبدو غير محتملة.
ومن جانبها، ترغب هافانا أيضاً في تجنّب مرحلة انتقالية فوضوية على الطريقة الروسية. لكن مثال الصين – إعادة هيكلة الاقتصاد بدل الانفتاح – في حين أنه مناسب، إلا أنه يتناقض مع الوتيرة البطيئة للإصلاحات.
يقول بيدرو فريري، وهو محام في وول ستريت مع خبرة كوبية طويلة: “إن الكوبيين في منطقة مجهولة، يحاولون فهمها. بعضهم أذكياء جداً، لكن عليهم أيضاً أن يعملوا في ظل قيود فكرية وعملية رئيسة – مثل العمل بأسرع ما يُمكن دون فقدان السيطرة”.
مؤتمر الحزب الشيوعي في العام المقبل سيكون حاسماً؛ كاسترو، الرئيس السابق للقوات المُسلحة، الذي يُشاع أنه واقعي، يقول إنه يريد تعميق الإصلاحات. وقال أيضاً إنه سوف يتنحّى من منصب الرئيس في عام 2018، على الرغم من أنه يستطيع البقاء رئيساً للحزب، حيث تكمُن القوة في نهاية المطاف.
في الوقت نفسه، الجيش مستمر في الاستيلاء على “الصروح الشامخة” للاقتصاد، كالمُجمّع السياحي العسكري. وبحسب بعض التقديرات، يُسيطر الجيش على 60 في المائة من الاقتصاد، مثل سيطرته على جافيوتا، أكبر مشغل فنادق في الجزيرة. لكن حتى الإصلاحيون العسكريون يمكن أن يعانوا العوائق الروتينية للجمود الرسمي.
وأصبح هذا واضحاً عندما التقى كاسترو البابا فرانسيس في روما. بعد ذلك، قال كاسترو، إنه يبقى شيوعياً، إلا أنه كان يُفكّر في العودة إلى الكنيسة. ونشرت وسائل الإعلام العالمية هذا التصريح غير المعهود بصورة بارزة، لكن ليس صحافة كوبا الرسمية، ما يعني أنها فرضت حظرا على الرئيس نفسه. كما قال كاسترو: “الصحافة الرسمية هي إهانة للمتشددين”.
جوف، شأنه في ذلك شأن راقصيه، ليس مهتما بالسياسة وليس لديه وقت لها. ولا بد لعرضه أن يستمر. كان جالسا على أرض الاستديو، وراح يراجع قائمة أغاني الليدي سالسا. سوف يهبط الستار بعد أغنية سيليا كروز “سوف أبقى على قيد الحياة”، التي هي نسخة مقلدة من أغنية جلوريا جينور بالاسم نفسه، في حين أن العرض الإضافي هو “الوداع”، وهي مقطوعة سالسا خفيفة.
هذه طريقة مرتبة لاختتام العرض – لكنها أيضا تخمين غامض حول مستقبل كوبا. من الذي سيبقى على قيد الحياة؟ والوداع لماذا؟
يقول فرير: “أكثر الأمور المثيرة حول كوبا اليوم هو المجهول”.