Site icon IMLebanon

“اليورو” والجنس يهزّان مهرجان “كان” السينمائي

cannes-festival

 

همّان هزّا الدورة الـ 68 (13 ـ 24 أيار 2015) لمهرجان “كان” السينمائي: الـ“يورو” والجنس. الأول ضرب سوق الفيلم في صميمه، من دون أن يهزّ أركان قوته المتنامية. حاول عملاؤه الحفاظ على بأسهم التجاري وأنفتهم عبر رسائل إلكترونية وُزّعت على الجميع عبر شبكة “إنترنت”، تضمنت تصريحات طنّانة بشأن نجاحهم في تحقيق صفقات معتَبَرة. على رأس هؤلاء، الأميركيون الذين حافظوا على مستوى تواجدهم إلى أقصى حدّ، ما جعلهم يستحوذون على 18% من أرضية السوق، فيما قنعت الدولة المضيفة فرنسا بالمركز الثاني بنسبة 15%، وجاءت أفريقيا في المرتبة الثالثة بـ2% فقط. فقد غامر أهل هوليوود بكل شيء لجعل عمليات الإنتاج بين أيديهم (27.9 %)، وكانت الفرحة عارمة بتواجد جديد المخرج الأسترالي جورج ميلر “ماد ماكس” ضمن العروض الخاصة، وتمخطر نجومه، أمثال الجنوب أفريقية تشارلز ثيرون والبريطاني توم هاردي، على السجادة الحمراء، في وقت ارتفعت إعلاناته الفخمة على واجهة فندق “كارلتون” العريق، احتفاءً بـ “البليون دولار الأولى” التي كسبها لاحقاً بعد عرضه العالمي الأول في “كان” الأسبوع الماضي.

المال

لا “كان” من دون هوليوود. هذا ما أدركه المدير الفني تييري فريمو، على الرغم من محاولاته اللعب على صراط نخبوية العروض، وإبقاء المهرجان منصة لعناوين تكتسح لاحقاً أسواقاً ومهرجانات أخرى. بيد أن القيصر الجديد لـ “كان” بيار لسكور وضع نصب عينيه العملة الخضراء أولاً، مجتهداً في عامه الأول على تحييد خسائر “سوق الفيلم” مع تصاعد “ضربة اليورو”، باعتبار أن تلك السوق هي الرحم الحقيقي لميزانية مهرجان تتعاظم دوراته عاماً تلو آخر. لكن، لا يزال الوقت باكراً على إعلان نسب أرباح السوق وخسائرها، مع أنها أغلقت أبوابها في 22 أيار 2015، ولن تُعرف النسب إلا ليلة الختام الشهيرة، حيث سيتابع الملايين لمن ستؤول “السعفة الذهب” من بين المتنافسين (19 فيلماً) في مسابقة رسمية غلبت عليها نصوصٌ متواضعة القيمة والاشتغال السينمائيين.

الأمر الأكثر اطمئناناً للثنائي لسكور ـ فريمو أن السوق تمكّنت، للمرّة الأولى في تاريخها، من اختراق سقف الـ11 ألف و806 مشاركين، منهم 1927 مشتركاً، بينما حضر 5 آلاف و36 شركة عالمية. إلى ذلك، أوردت إدارته خبراً عربياً سعيداً خصّ سوريا والبحرين والعراق وإقليم كردستان، الذي شارك للمرة الأولى، ضمن 116 دولة، في “القرية العالمية” الواقعة على شاطئ “كروازيت”. الغريب أن إعلام “كان” لم يهتمّ بهذه الحقائق، وركّز جهده على شؤون غريبة المنطق. فقد نشرت صحيفة “هوليوود ريبورتر” تحقيقات كثيرة، تناول أحدها اللغط الذي طال إدارة فريمو، بخصوص سماح رجال أمن لشابات دخول العروض الرسمية الليلية وهنّ تنتعلن أحذية رياضية، وتخالفن تقليدا صارما بانتعال الكعوب العالية. وهذا أثار حفيظة الممثلة البريطانية إميلي بلانت، التي صرّحت في مؤتمر صحافي خاص بـ“سيكاريو” للكندي دوني فيرنوف، الذي أدّت فيه دور البطولة، أن على المشاركات ارتداء ما يحلو لهنّ، ليرتفع صدى معركة يبدو جلياً أنها ستكون في واجهة الدورة المقبلة. كذلك، اهتمّت الصحيفة نفسها بمناقشة آراء متعلّقة بموضوع نظام عويص وشائك: سياسة إصدار البطاقات الصحافية، وتثمين أصحابها والصحف والمطبوعات التي تقف وراء نشاطاتهم داخل أروقة المهرجان. أصاب أحد قدماء المشاركين فيه بقوله إن تراتبية ألوان البطاقات تشبه “نظاماً طبقياً استبدادياً، يفصل العبيد (أصحاب البطاقات الصفراء والزرقاء) عن الطبقة المتوسطة (أصحاب اللون القرمزيّ) وأصحاب الحظوة (أصحاب اللون الأبيض وزملاءهم الحاملين اللون القرمزي مع نقطة صفراء)، في أولوية الدخول إلى قاعات العروض، وشغل المقاعد الأفضل. وبقدر ظرافة الموضوع، إلا أنه شاكس تجاوزات غير مبرّرة للاستضافات، وصل عدد طالبيها إلى حدّ تخمة، تجلّت بعشرات الواقفين في طوابير ـ إما تحت شمس قائظة وإما تحت زخّات مطر بحرية لا ترحم ـ قبل ساعات من موعد أي عرض على أمل الفوز بمقعد.

“بورنو” راقٍ

أعلن “كانّ” بشكل موارب أنّ الجنس وحكايات شبقه وأجساد نجومه وإيروتيكية مشاهده سلعة لن تبور، وأن أشرطته على قدر هائل من سطوة لاكتساح الأسواق وتحقيق أرباح لا تُعقل. هذا كلام لا يرتبط بأفلام “بورنو” مبتذلة، بل عن أعمال مميّزة قاربت اللحظة الجنسية من زاوية متفلسفة، على قدر هائل من الجرأة وفرادة الصنعة، كما تجلّت برونق باهر في جديد الأرجنتيني الفرنسي غاسبار نويه “حبّ”، وتفجيره قنبلة فضائحية خضّت طهرانية سائدة. هذا عمل مصنوع بحرية مطلقة، تجعل من خطابه الإيروسي وتركيبته السينمائية متقدماً لحقب مقبلة، لن يتمكن أحدٌ من تجاوز ابتكاريتها الخاطفة أو تقليدها، وإن أصابها شيء من التبسيط الحسّي. قفز نويه بصنف ما يمكن نعته بـ“البورنو الراقي” إلى نقطة اللاعودة، التي ترغم سلطات الرقابات على تشريع الفيلم الجنسي، ورفع الخشية الأخلاقية من مناقشة ممارسة بشرية ترتبط بالمهج والعواطف والرغبات والعائلة. فيلم مخرج “دخول الفراغ” (2009) ذو خطّ حكائي مختزل: شاب أميركي يدعى مورفي (كارل غلوزمان) ربّ عائلة صغيرة، يعاني ذنب اختفاء صديقة فرنسية قابلها قبل أعوام، وعاش معها فورة جنسية، لا تُضاهيها بفعلها ومغامراتها وعذابات شبقيتها. ينعكس إثم الشاب على أمانه العائلي، فينحطّ ببطء شديد نحو انكسار نفسي أليم. خلال هذا اليوم الوحيد، استرجع نويه ـ بمونتاج سحري من توقيعه بمساعدة دوني بيدلو ـ أغلب المطارحات الغرامية بين مورفي وإلكترا، منذ تعارفهما وحتى انفصالهما. إنهما فورتا جنس شبابي سعيا إلى تكريس منطق شخصي لمعنى المضاجعة ورغباتها، وتحرّر الجسد ولذّاته. كلّ مشهد للقاء جنسي صوّره القدير بنوا ديبي بألق بصري مفعم بألوان صارخة وتهييجية. فالهدف ليس تصوير جسدين بهيين، بل توظيف خلفيات فاتنة تتماشى مع الفعل المقدس. تختفي إلكترا إلى الأبد، ويسقط الشاب في حضيض الذكريات.

لكن البشرية تبقى مطارحاتها الغرامية عنواناً أزلياً للشهوة التي شعّت حكاياتها في فيلمين آخرين، هما “كارول” للأميركي تود هينز، عن علاقة سحاقية غير متكافئة في خمسينيات أميركية بين امرأتين من طبقتين متضاربتين، و“مارغريت وجوليان” للفرنسية فاليري دونزيلّي، الذي يروي حكاية زنا محارم بين شاب أرستقراطي وشقيقته، قبل أن ينال القانون والكنيسة من رقبتيهما.

إلى ذلك، توافرت الشهوة بأسلوب فجّ وإعلاني واستفزازي في جديد المغربي نبيل عيوش “الزين إلي فيك”، بجعله 4 عاهرات في مدينة مراكش عنواناً لشتم حياة داعرة، تدفع فتيات بلاده إلى بيع أجسادهنّ من عرب الخليج (السعوديين تحديداً)، وإلى التهتّك وإدمان المخدرات وارتكاب السرقات وممارسة انحطاط جماعي، يقود نهى ورندا وحليمة، بـ“قيادة” الشابة النارية سكينة، إلى رحلة كابوسية. هذا شريط تنميطي ومدّع، ذو لسان بالٍ بشأن بنات الهوى ولياليهنّ وضحاياهنّ ومكرهنّ. يُرجع خطاياهنّ إلى الفقر، ويتحامل على سلطات تُهينهنّ، ويغلّ في طبقة فاسدة تولّدهنّ، من دون أن يوصل مُشاهِدِهُ إلى قناعة عقلانية بأن يُحاولنّ التوبة أو الخلاص من مذلتهنّ. بدلاً من هذا، رتّب مخرج “ياخيل اللّه” (2012) رحلة استجمام لهنّ على شواطئ مدينة أغادير. عابَ الشريطَ حواراتُهُ غير المتوازنة، ومشهدياته المعمولة بعجالة واضحة. لعلّ أسوأ ما فيه هو التوليف الذي وقّعه دميان كيو، فهو لم يكن سوى ربط مقاطع ومشاهد حقّقها، برعونة سينمائية غير معهودة، مخرج متمرّس. والفيلم، بهذا المعنى، يُشكّل كبوة لا تُغتفر.