IMLebanon

الإحتباس الحراري.. بطاقة عبور بيد صندوق النقد

IMFLagarde

خضر حسان
لا يفلت صندوق النقد الدولي من يده أي فرصة لتأكيد سيطرته على الحكومات. وهو بخلاف دوره الأساسي الذي يفترض أن يكون إقتصادياً صرفاً، يعمل ضمن المجال السياسي، تحت ستار الإقتصاد. ولا داعي لسرد النتائج الإقتصادية المدمّرة التي تترتّب عن إتباع توصيات الصندوق وشروطه، في معظم بلدان العالم، وتحديداً النامية منها.
وفي طريق تأدية دوره الذي رُسم له منذ تأسيسه منتصف الأربعينيات، أي العمل على “منع وقوع الأزمات في النظام عن طريق تشجيع البلدان المختلفة على اعتماد سياسات اقتصادية سليمة”، جنح الصندوق كثيراً نحو إلزام الأنظمة بإعتماد سياسات إقتصادية غير سليمة، نتيجة عدم مراعاة الشكل السياسي والإقتصادي لكل نظام، وإمكانياته المالية. فأصبح الصندوق أداة لفرض شكل إقتصادي موحّد، يتلخّص بالنيوليبرالية، التي تتطوّر تلقائياً اليوم لتصل الى أعلى سلّم تطور الليبرالية المتوحشة. وفي السبيل ذاته، إنحرف الصندوق عن مرتكزاته الأساسية، أي التركيز على السياسات الإقتصادية الكليّة للدول، إذ لم يعد يكتفي بالحديث عن إدارة النقد والإئتمان وسعر الصرف والسياسات المالية… وغيرها، بل بات يقحم نفسه في قضايا البيئة، كمدخل لزيادة قنوات التدخل في السياسات الإقتصادية للحكومات.
في وقت تحاول دول العالم التوصل الى إتفاقات جديدة حول مكافحة ظاهرة الإحتباس الحراري، تكون مقدّمة لما سيُطرح في قمّة باريس التي ستُعقد في كانون الأول المقبل، أعلن صندوق النقد الدولي ان “الحكومات حول العالم سوف تتكلف في العام 2015 نحو 5.3 تريليون دولار أمريكي (قبل الضرائب) بسبب دعم الطاقة، والأضرار البيئية، والصحية، وغيرها من الآثار الجانبية”، لذلك جدد الصندوق دعوته للحكومات “بالتخلص من الدعم الذي يسمح للشركات والأسر بشراء البنزين والفحم ومصادر الوقود الأخرى بأقل من تكاليف عرضها”. وكان الصندوق قد مهّد لهذه الدعوة في تموز 2014، عبر دعوته الى رفع ضرائب الطاقة، معتبراً (وفق ما ذكرته وكالة رويترز) ان “ضرائب الطاقة في كثير من دول العالم أقل بكثير مما ينبغي أن تكون عليه لكي تعكس التأثيرات البيئية والصحية الضارة لإستخدام الوقود الحفري (الذي يستخرج من المواد الأحفورية كالفحم الحجري، الفحم النفطي الأسود، الغاز الطبيعي، والبترول)”. وطمأن الصندوق الى ان “رفع ضرائب الطاقة من غير المتوقع أن يلحق ضرراً بالنمو إذا تم بشكل رشيد”.
غير ان ما يثير الريبة في الدعوتين، هو توق الصندوق الى زيادة الضرائب، وتالياً رفع الدعم كلياً، حتى قبل ان تعرض المنظمات والجهات البيئية الدولية أرقامها وسياساتها المتعلقة بمكافحة التغيرات المناخية، حيث أعربت المديرة العامة لصندوق النقد، كريستين لاغارد، عن ضرورة عدم انتظار الدول لتتوصل الى إتفاق عالمي بشأن سياسات المناخ، “بل عليها أن تمضي قدماً من جانبها في ضبط أسعار الطاقة”. وبما ان الحديث عن الإحتباس الحراري والتغيرات المناخية ليس من مهمات الصندوق، إلا أنّ “مهمة الصندوق الأساسية في التصدي للإضطرابات الإقتصادية مستحيلة من دون معالجة الأضرار البيئية أيضاً”.
لاغارد حاولت “تلطيف” ما يطرحه الصندوق، بالقول ان ارتفاع أسعار الطاقة جراء رفع الدعم “سيدفع الناس للتحول إلى وقود أنظف أو سيارات أكثر كفاءة في استهلاك الوقود، من تلقاء أنفسهم، وسيسمح للحكومات بخفض الضرائب الأخرى على الاستهلاك أو الدخل لتقليل الأعباء عن الناس أو التوسع في سداد الدين العام”، لكن هذه المحاولة، الى جانب معلومات الصندوق التي تشير الى ان رفع الدعم “سيقلص الوفيات بسبب الوقود الحفري بنسبة 63% ويخفض انبعاثات الكربون بنسبة 23% ويرفع إلايرادات بنسبة 2.6% من الناتج المحلي الاجمالي للعالم ككل”، لا تشكّل سوى سنداً زائفاً لمروّجي سياسات صندوق النقد (ومعه البنك الدولي)، لأن سياسات الصندوق لم تكن يوماً لصالح الدول النامية، بل دائماً تصب لمصلحة كبريات الدول والمؤسسات المالية الدولية، في سعيها لفتح أسواق تصريف جديدة لمنتجاتها المختلفة، بدءاً من السلع الغذائية وصولاً الى السلاح والصناعات الثقيلة. وتتخذ الدول والمؤسسات تلك، من رفع الحماية شعاراً لدخول الأسواق غير القادرة على المنافسة، وتتخذ من تلميع صورة الديون، مدخلاً لإغراق البلدان بديون يستحيل سدّ فوائدها، وليس فقط سدّ أصلها.
وعلى ضوء ما تقدّم، يرى الخبير الإقتصادي جورج قرم، ان دعوات الصندوق في هذا الإتجاه طبيعية، لأن الصندوق “معروف بتسويقه للأفكار والسياسات النيوليبرالية، وبمعاقبته للحكومات التي لا تلتزم بهذا النظام الإقتصادي”، أما إطلالة الصندوق من باب البيئة، فإعتبره قرم خلال حديثه لـ “المدن”، أمراً عادياً، لأن الصندوق “يستفيد من أي مجال، حتى وإن كان بعيداً عن المجال النقدي”. ولفت النظر الى ان “تناول فكرة رفع الدعم لتخفيف كلفة دعم الطاقة، بمعزل عن الصعوبات المالية للمواطنين، هي فكرة صحيحة بالمعنى الإقتصادي الصرف، لكن في دول مثل لبنان ليس فيها سياسات إجتماعية واضحة المعالم، يصبح رفع الدعم أمراً خاطئاً. ويمكن للدولة على سبيل المثال رفع الرسوم الجمركية على السيارات التي تحرق وقوداً أكثر”.
لا يغفل المتابعون لسياسات صندوق النقد عن اهدافه غير المعلنة، والتي باتت مكشوفة بفعل التجربة، لكن في العادة، يحافظ الصندوق على قليل من “الحياء” في تسويق سياساته، على عكس ما يروج له اليوم في مجال البيئة. لأن هذا الميدان يكاد يكون من أكثر الميادين إحتواءً على سياسات وأفكار لتخفيف الآثار السلبية لمصادر الطاقة التقليدية. فإذا كان إسهام الصندوق في هذا المجال بريئاً، عليه ان يطرح سياسات تساعد في إعتماد مصادر الطاقة البديلة، دون الغوص بالتفاصيل التي يهتم بها أهل الإختصاص، والتفرّد في معالجة “الإضطرابات الإقتصادية” عبر برامج دعم القطاعات الإنتاجية وحماية الإقتصادات الوطنية، لا كشفها للمنافسة غير المشروعة وغير المتكافئة. أما في مجال فرض ضرائب “بشكل رشيد”، فعلى الصندوق أن يشرح مفهومه للشكل الرشيد، خصوصاً ان لاغارد أوضحت ان الصندوق يتحدث “عن ضرائب أكثر ذكاءً وليس عن ضرائب أعلى”.