يُعتبر مناخ الاستثمار المدخل الحقيقي إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وتوفير تمويل المشاريع الإنتاجية والخدماتية بهدف التوسّع في القاعدة الإنتاجية والخدماتية، وما تُتيحه من فرص لزيادة الإنتاجية ورفع معدّل القيمة المضافة وامتصاص البطالة وزيادة الدخل ومحاربة الفقر مع الأخذ بالاعتبار أنّ تحقيق تلك الأهداف مرتبطة بتوافر مقوّمات اقتصادية واجتماعية وأمنية حتى يستطيع البلد دخول المنافسة الدولية من أجل جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
وعموماً يمكن تعريف الاستثمار بأنّه ذلك الجزء المقتطع من الدخل القومي، والمسمّى بالادّخار والموجّه إلى تكوين الطاقات الإنتاجية القائمة، وتجديدها بهدف مواجهة تزايد الطلب، طالما أنّ المستثمر مستعد لقبول مبدأ التضحية برغبته الاستهلاكية الحاضرة فيكون مستعداً أيضاً لتحمّل درجة معيّنة من المخاطر.
لقد شهدت تدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر الوافدة إلى الدول العربية (21 دولة) انخفاضاً بمعدل 13.1% إلى 66.2 مليار دولار عام 2014 مقارنة مع 76.2 مليار دولار عام 2013. ومثّلت الاستثمارات الوافدة إلى الدول العربية ما نسبته 5.3% من الإجمالي العالمي البالغ 1.24 تريليون دولار، و11.5% من إجمالي الدول النامية البالغ 573.6 مليار دولار، وكانت حصة الدول العربية من إجمالي التدفّقات العالمية قد شهدت تذبذباً خلال الفترة الماضية، حيث تراجعت بشكل طفيف من 4.8% عام 2009 إلى 4.1% عام 2010، ثم عاودت الارتفاع إلى 5.5% عام 2012 قبل أنْ تقفز بقوّة إلى 6.4% عام 2013.
لقد حلّت السعودية في المرتبة الأولى عربياً كأكبر دولة مضيفة للاستثمارات الأجنبية المباشرة بتدفّقات بلغت 28.1 مليار دولار وبحصة بلغت 42.5% من الإجمالي العربي، رغم تراجع التدفّقات بنسبة 12% مقارنة بالعام 2013، حيث اتجهت الاستثمارات الأجنبية إلى عدد من المشاريع النفطية الضخمة المتكاملة، تلتها مصر في المرتبة الثانية بقيمة 6.4 مليارات دولار وبنسبة 9.6%، ثم قطر في المرتبة الثالثة بقيمة 5.5 مليارات دولار وبنسبة 8.4%، رغم تراجع التدفّقات مع إتمام آخر محطة من محطات الغاز الطبيعي المسال (قطر غاز) والتي كانت قد دعمت الاستثمار الأجنبي المباشر، ثم لبنان في المرتبة الرابعة بقيمة 5.0 مليارات دولار وبنسبة 7.5% من الإجمالي العربي، وفي الإمارات ظلّت التدفّقات الداخلة من الاستثمار الأجنبي المباشر عند نفس المستوى المنخفض الذي كان قائماً في عام 2013، عندما هبطت بحدّة إلى 4 مليارات دولار بسبب الأزمة الاقتصادية، أما التدفّقات الواردة إلى ليبيا فقد ازدادت بأكثر من 40% في عام 2014 لتصل إلى 3.8 مليارات دولار، لكن هذه الطفرة يبدو أنّها قصيرة الأجل بالنظر إلى الوضع السياسي الراهن في البلد بشكل خاص ودول شمال إفريقيا بشكل عام التي من المرجّح أن تشهد تراجعاً في التدفّقات الواردة، حيث لم تحدث عمليات كبيرة تتعلّق باندماج واجتياز الشركات عبر الحدود على مدى الأشهر الأربعة الأولى من 2015.
كما في السنوات السابقة لا تزال الدول الأوروبية تهيمن على أكبر حيّز ضمن قائمة أفضل عشر دول عالمياً في المؤشر، بما تؤكد مكانها بين أكثر الاقتصاديات تنافسية، ففي حين حافظت سويسرا على تصدّرها للسنة الثالثة على التوالي، حلّت سنغافورة التي تواصل جهدها التصاعدي لتصبح ثاني أكثر اقتصاد تنافسي في العالم على حساب السويد التي حلّت في المركز الثالث، في حين قفزت فنلندا ثلاثة مراكز لتحتل المركز الرابع بدلاً من المركز السابع، ثم الولايات المتحدة بالمركز الخامس، وألمانيا في السادس، ثم هولندا، الدانمارك واليابان، فيما قفزت المملكة المتحدة مركزين من المركز الـ12 عالمياً خلال العام السابق إلى المركز العاشر.
هناك الكثير من التساؤلات التي تراود المتابعين لأوضاع الاستثمار في لبنان، حيث يشير الواقع إلى أنّ هناك إمكانيات اقتصادية واعدة وفرص استثمارية كامنة خاصة أن بعض موارده لا تزال غير مستغلة، أي إنّ الملاحظ على صعيد الإمكانيات أنّ الصورة مشجّعة بما يمتلك لبنان من موارد طبيعية في مختلف القطاعات الاقتصادية والخدماتية ومن أهمها القطاع النفطي الذي سوف يكون من القطاعات الرائدة لجذب الاستثمارات المعتمدة وغيرها من الصناعات الاستخراجية، والتحويلية، أي إنّ هذا القطاع سوف يكون مفتاح التنمية الاقتصادية.
وفي القطاع السياحي تتوافر العديد من الفرص الاستثمارية الواعدة، ولعل أهمها مجال الفندقي والقرى والمنتجعات السياحية في السواحل الممتدة على البحر الأبيض المتوسط، وغيرها من المواقع الجبلية، خاصة أنّ لبنان يملك الكثير من التراث الحضاري الممتد في جذور التاريخ.
كما إنّ القطاع الزراعي هو الآخر يتمتّع بفرص استثمارية عديدة خاصة مع وفرة مياه الري، كما يتمتع هذا القطاع بمزايا نسبية في إنتاج العديد من المحاصيل من الخضروات والفواكه على مدار السنة بسبب تنوّع المناخ بين المناطق المرتفعة والساحلية ومن بين المزايا المحفّزة لجذب الاستثمارات في مختلف القطاعات الاقتصادية التي توفر الأيادي العاملة الرخيصة واتساع السوق الاستهلاكية المحلية.
لذلك فإنّ مناخ الاستثمار يتطلّب توفير مجموعة من المحدّدات في ظل العولمة الاقتصادية القائمة على المنافسة الدولية لجذب الاستثمارات الأجنبية، وهذه النتائج هي في حقيقة الأمر متداخلة، ومن أهمها ما يلي:
1- توفير استقرار اجتماعي وسياسي يعتمد على نظام سياسي مؤسسّي واضح، معزّزاً بسلطة القانون في ظل النظام الديمقراطي القائم على التعدّدية السياسية ومنظّمات المجتمع المدني والتداول السلمي للسلطة.
2- توافر الموارد الطبيعية مع استقرار ووضوح السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية في ظل الانفتاح الاقتصادي والقدرة التنافسية للمؤسّسات الإنتاجية والخدماتية المحلية.
3- إيجاد بنية تشريعية وقضائية تتميّز بالبساطة والوضوح وعدم التناقض في القوانين المتزامن مع قضاء عادل يمارس نشاطه بشفافية وسرعة في الفصل بين المتنازعين.
4- توفير بنية أساسية ومعلوماتية متطوّرة.
5- تسهيل إجراءات تأسيس وتسجيل المشاريع الاستثمارية واختصار الخطوات البيروقراطية لكل ما يتعلّق بالنشاط الإقتصادي.
6- تطوير مستوى التعليم والمهارات الفنية وتقنيات المعلومات لليد العاملة في مختلف المجالات سواءً كانت مهارات (إدارية – فنية – تقنية – تسويقية).
7- رفع معدلات النمو للناتج المحلي الإجمالي، ورفع متوسّط دخل الفرد في ظل عدالة توزيع الدخل.
8- تنامي الطلب واتساع السوق المحلية مقترناً بالقوّة الشرائية للمواطن.
9- تقليص بؤر الفساد وتوافر قواعد المساءلة في ظل الشفافية الواضحة.
10- الاعتماد على نظام الحوكمة في النظام المصرفي والمؤسّسات المالية والائتمانية وأسواق الأوراق المالية.
لذلك يفتقد لبنان إلى محدّدات مناخ الاستثمار بأنواعه، الأمر الذي يتطلّب من المعنيين بحسب مواقعهم، الوقوف للتقييم وإعادة النظر في مجمل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتشريعية…إلخ، وهذا يثبت أنّ بلوغ معدل البطالة بحدود 30% من القوى العاملة و37% من الطلاب الجامعيين، وكذلك نسبة الفقر إلى معدل 45% من إجمالي السكان لم تكن عفوية، ولم تأتِ من فراغ وإنّما هي محصلة ونتيجة منطقية لسياسات حكومية خاطئة بعيدة عن السياسات الرشيدة.
وأهم محدّدات المناخ الاستثماري في الوطن يكمن في توفير الاستقرار الأمني، والسياسي، والاقتصادي، والبنية الأساسية من طرق وخدمات وكهرباء ومياه، ووضوح الجانب التشريعي بما يتضمّن من مزايا وحوافز وتسهيلات، فضلاً عن الموارد البشرية المؤهّلة والمالية، والخدماتية، والتكنولوجية، المتزامن مع عدالة القضاء والشفافية الكاملة، بالإضافة إلى اتساع السوق الداخلية المقرونة بالقوّة الشرائية والقدرة على التوفير.
فالكثير من المستثمرين ينظرون إلى لبنان على أنّه جهة ليست آمنة، وذلك عندما عمد الانقلابيون للإساءة إلى سمعة لبنان من ناحية الأمن والاستقرار، وتعمّدوا استمرار التظاهرات والتجمّعات في المناطق الحيوية التجارية، ما أَضرَّ بسمعة البلاد، فاليوم إذاً أصبحت أمام الدولة مشكلتان؛ الأولى يكمن حلّها بإعادة ثقة المستثمر من الناحية الأمنية، حين تقضي الدولة نهائياً وكلياً على الجماعات الإرهابية وسحب السلاح غير الشرعي، والثانية بتقديم التسهيلات والضمانات التي تجعل المستثمر مطمئناً بأنّ القضاء سيكون بجانبه، وأنّه ليست هناك ضرائب قد تثقل كاهله وتسرق مجهوده. فمن الطبيعي أنْ تكون الضريبة هي العامل الأساسي في طرد الاستثمار في أي دولة، وها نحن نرى دولاً مثل كندا وأميركا وأستراليا كيف أنّها تجذب الاستثمارات إليها بتقديم التسهيلات والترغيب، حتى تصل إلى درجة التوطين.
أما الإصرار على الاستمرار على هذا الحال ستكون عواقبه وخيمة، في ظل وجود تنافس بين الدول العربية التي تحاول أنْ تُعيد النظر كل سنة في استراتيجيتها الاقتصادية، وتراجع قراراتها، فتلغي رسوماً وتخفّض ضرائب، كما تقدّم حلولاً للمستثمر كالاستدانة من البنوك بنسبة أرباح بسيطة، أو بدون أرباح، أو أنْ تعفي المؤسّسة لعدّة سنوات من رسوم التسجيل وتجديد التراخيص، مع العلم بأنّ هذه الدول لم يفرض أيٌّ منها ضريبة على العامل الأجنبي.