رأت صحيفة “الجمهورية” ان سلوك الرئيس بشّار الأسد -على الصعيد العسكري- كان مفاجئاً في الأسابيع الأخيرة. من إدلب إلى تدمر، بدَت خسائرُه أقرب إلى الانسحابات منها إلى الهزائم العسكرية. لقد بدأ الأسد تنفيذَ الخطة “ب” من الحرب: الانكفاء إلى البيت والدفاع عنه وعن حدائقه الخلفية.
وأشارت الصحيفة إلى الخريطة السورية باتت موزّعة، تقريباً، كالآتي:
– 50 في المئة من الأراضي تسيطر عليها «داعش» أو ساقطة عسكرياً في يدها، وهي المناطق الداخلية الشمالية والشرقية.
– 20 في المئة تقع تحت سيطرة الفصائل السورية المعارضة والأكراد، في الشمال والجنوب.
– 30 في المئة ما تزال تحت سيطرة النظام، من حدود تركيا عند الساحل وصولاً إلى طرطوس، وامتداداً إلى أجزاء من محافظات حلب وحماه وحمص وأريافها… حتى دمشق.
أمّا في العراق، فالخريطة موزّعة، تقريباً، كالآتي:
– 40 في المئة من مساحة العراق، غرباً ووسطاً، تحت سيطرة «داعش». وهي مناطق ملاصقة لمناطق «داعش» السورية.
– 15 في المئة باتت تتمتّع باستقلالها الذاتي تحت السيطرة الكردية، أي إقليم كردستان.
– 45 في المئة من العراق، وسطاً وجنوباً، ما زال تحت السلطة المركزية التي يتمتّع فيها الشيعة بالوزن الراجح، بدَعم إيراني.
ولفتت الصحيفة إلى ملاحظتين:
الأولى هي أنّ الأكراد يطالبون بضمّ كركوك رسمياً، لا واقعياً فقط، إلى الإقليم. والثانية هي أنّ سيطرة “داعش” على المناطق ذات الغالبية السنّية أقوى من سيطرة السلطة المركزية على بعض المناطق السنّية الأخرى، ما يَعني أنّ منطقة «داعش» هي المرشّحة للاتّساع لا مناطق النفوذ الشيعي.
بناءً على هذه الوقائع، يَدرس الجميع حساباته في سوريا والعراق.
وقالت: “في الأسابيع الأخيرة، تبلورَت ملامح التغيّرات على الأرض في البلدَين بشكلٍ متسارع. وبدا أنّ عملية رسم الخرائط دخلت مراحلَ تنفيذية عاجلة، على خلفية التحضير لإبرام الاتّفاق بين إيران والدوَل الكبرى. فالاتّفاق سيعالج الملفّ النووي، لكنّه في العمق سيَرسم دور إيران كقوّةٍ إقليمية.
وفي الفترة الفاصلة عن الاتفاق، يتسابق الجميع لاكتساب الأوراق والسيطرة على الأرض. وباشرَت إيران تنفيذَ مخطّطها القديم، الهادف إلى جعل الخليج العربي (الفارسي وفق تسميتها)، منطقة نفوذ لها. وتحقيق هذا الهدف يقتضي زعزعة الأمن الداخلي في دوَل المنظومة العربية الخليجية.
وجاء الردّ السعودي فورياً وقوياً في اليمن، لأنّ المسألة حيوية ولا تتحمّل التأجيل. لكن «عاصفة الحزم» لا تمنَع المراحل التالية، والحسّاسة، من صراع أطلّت ملامحُه في الأيام الأخيرة. وثمَّة فصول أخرى متوقَّعة، وقد تؤدّي إلى فرز وقائع جيوسياسية جديدة.
ولكن، على «الجبهات الناضجة»، كالعراق وسوريا، دخلَ الجميع في المراحل المتقدّمة من عمليات الفرز: السُنّة والشيعة والأكراد، ومعهم آخرون. وكان مثيراً اجتياح «داعش» للرمادي وسائر الأنبار في العراق، من دون أن يُبديَ الجيش المركزي مقاومةً تُذكر. وليس هناك أيّ أمَل، في تقدير المراقبين، في استعادة الجيش للأنبار في نهاية المطاف.
وكذلك، كان مفاجئاً اجتياح «داعش» السريع لمحافظة إدلب وبلوغه تخومَ المعقل العَلوي في الساحل، من دون مقاومةٍ ذات شأن. وقبل أيام، تمَّ اجتياح “داعش” لمدينة تدمر، في سيناريو يبدو أقربَ إلى التسليم والتسلُّم بينها وبين جيش الأسد.
وفي شكل معاكس، بدَت معركة النظام و”حزب الله” في القلمون أصغرَ بكثير من الملاحم التي كانت متوقَّعة هناك… بعد ذوبان الثلج، والتي كانت مرشّحةً لتصبح حربَ استنزاف مرهِقة للنظام و«الحزب»، في سوريا ولبنان.
يقولون في الأوساط الديبلوماسية إنّ التغيُّرات المنتظَرة في سوريا والعراق بدأت تَدخل حيِّز التنفيذ، بتدَخُّل القوى الإقليمية مباشرةً، وبرعاية دولية. وتتحدّث الأوساط عن معلومات رشَحت من لقاء وزير الخارجية الأميركي جون كيري والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في منتجَع سوتشي أخيراً، ومفادُها بأنّ صفقةَ اقتسامٍ للمصالح قد جرى إبرامُها بين الطرفين، وأنّ المنطقة مقبلةٌ على سايكس- بيكو جديد يرضى به ذوو الشأن دولياً وإقليمياً.
وهذا الاتفاق سيَحفظ أمنَ إسرائيل الاستراتيجي، وفيه تَحصل إيران وتركيا على جوائز ترضية… عربية. وستُرسَم مناطق نفوذ جديدة ومتداخلة، لدويلات هزيلة متصارعة، تذوب معها الحدود بين سوريا والعراق. فمناطق «داعش» العراقية والسورية متلاصقة على امتداد مئات الكيلومترات في الصحراء، وقد سَقط قبل أيام آخر معبَر سوري مع العراق في أيدي «داعش» (التنف- الوليد)، كما تتلاصَق مناطق الأكراد في البلدين.
منطقياً، لا يمكن للأقلية العلوية، بدعمِ الشيعة، أن تسيطر على مناطق سنّية شاسعة جداً شرق حمص وصولاً إلى الحدود (المنهارة) مع العراق. وهذه المناطق لا يمكن تغطيتها سكّانياً ولا «تطويع» أهلِها ولا قمعُهم على الطريقة الأسَدية القديمة. فهذه المرحلة انتهَت.
ولذلك، لا يَستطيع النظام أن يقيمَ الدويلة المنتظَرة، إذا كانت ذات غالبية سنّية ساحقة. وفي الأساس، إنّ منطقته المفضّلة التي تضمّ معقله الساحلي وأجزاء من حمص وحماه وحلب وصولاً إلى دمشق ستكون ذات كثافة سكانية سنّية وازنة. وهذا مأزق سيواجهه الأسد و»حزب الله»، وسيَطرح عليهما دائماً مساوئ الاحتفاظ بدمشق وحسناته.
لقد تبلَّغَ الأسد إيعازاً من موسكو وطهران: إنتهَت الخطة “أ”، وتبدَّد الأمل كلّياً في الاحتفاظ بسوريا كاملةً. وبات لزاماً اللجوء إلى الخطة “ب”، أي الاحتفاظ بالأجزاء الحيوية لاستمرار البقعة الشيعية – العلوية. فالمخَطّط الشرق أوسطي يَقتضي الانتقال إلى الخطة “ب”، أي تكريس مناطق النفوذ.
ولذلك، تخلّى الأسد عن عبثيةِ الصراع المكلِف على مناطق لا أملَ فيها، وهي المناطق التي ستؤول إلى المعارضة السنّية بتنظيماتها المختلفة، وانكفَأ للدفاع عن بيته الخاص في الساحل العَلوي (حيث الأسطول الروسي جاهز لأيّ احتمال)، وللدفاع عن حدائقِه الخلفية في بعض حمص وحماه وحلب. وأمّا دمشق فستكون استحقاقَه الأكبر ذات يوم.
في سوريا والعراق، بدأت المقايضة التي يدرك فيها كلّ طرَف حدودَه، وهي ليست صعبة. ويقوم الأسد بتنفيذ المقايضة المطلوبة، بعدما انطفَأ فيه الجموح الموروث إلى السيطرة الكلِّية، في مقابل الاطمئنان إلى أنّ الحصّة الشيعية – العلوية مضمونة إقليمياً ودولياً.
وفي العراق، يَبدو السيناريو متشابهاً بل متشابكاً والسيناريو السوري. واللعبة اليوم هي لعبة وقت فقط. فنُضوج الصراع ضمن الخطة «أ» استغرقَ قرابة 12 عاماً في العراق، ونحو 5 سنوات في سوريا. فكم سيَستغرق نضوج الخطة «ب»؟ وما هي المراحل التالية؟.