IMLebanon

مصارف العالم تتلاعب بعملاته

CURRENCY4
محمد إبراهيم السقا
كشفت الأزمة المالية العالمية كثيرا من خبايا المصارف الكبرى في العالم وعملياتها القذرة التي تتلاعب من خلالها بصور مختلفة لتعظيم أرباحها، مثل التلاعب في أصولها بتحمل مستويات غير اعتيادية من المخاطر لزيادة الأرباح، ثم التخلص من هذه المخاطر بتجميعها في صورة سندات مغطاة بعقود، لا أحد يمكنه أن يكشف بدقة طبيعة المخاطر الحقيقية التي تحتويها. كذلك تم الكشف عن تلاعب هذه المصارف بأسعار المعادن النفيسة، بصفة خاصة الذهب، كما تم الكشف عن تلاعب بعض المصارف الرئيسة في معدلات الفائدة بتوجيهها نحو اتجاه محدد، مثلما حدث مع فضيحة التلاعب بمعدل الفائدة ليبور، أكثر من ذلك فقد تم إثبات مخالفة بعض هذه المصارف بمساعدة عملائها على التهرب من الضرائب، أو خرق قرارات الحظر الدولية على دول بعينها، وأخيرا وليس آخرا، فقد تم الكشف أخيرا عن قيام هذه المصارف بالتلاعب في أسعار العملات، بصفة خاصة الدولار واليورو، ومن المؤكد أن المستقبل سيكشف عن آليات أخرى قذرة تستعملها هذه المصارف في التعامل في صفقات أخرى.

سوق النقد الأجنبي هي أكبر أسواق العالم على الإطلاق، وتعاملاتها اليومية ضخمة للغاية، أضخم من أي سوق أخرى على وجه الأرض، فيوميا يتم تداول 5.3 تريليون دولار في هذه السوق، وفقا لآخر تقارير بنك التسويات الدولية عن السوق العالمية للنقد الأجنبي، هذا الحجم من العمليات يسمح للمتلاعبين الكبار بالتلاعب فيه وتوجيه بعض أسعار العملات نحو وجهة معينة، ذلك أن ضخامة حجم السوق، تجعل من الصعوبة بمكان القيام بالرقابة اللصيقة عليها، فضلا عن انخفاض درجة تدخل المنظمين أصلا في أعمالها، ولكن ما الذي حدث؟

لسنوات طويلة سمحت المصارف لعملاء محددين بالتعرف على طبيعة تدفقات النقد الأجنبي التي تتم في سوق النقد الأجنبي، وأصبح هؤلاء بالتالي أصحاب معلومات داخلية Insiders حيث يتمكنون من خلال هذه المعلومات من التعرف على اتجاه التطورات في أسواق العملات ومعدلات الصرف، ومن ثم اتخاذ قرارات الاتجار بناء على هذه المعلومات لتحقيق أرباح مرتفعة، كلما كانت المعلومات التي تفرج عنها المصارف صحيحة، وهو الأمر الذي يتنافى مع مفهوم كفاءة السوق، حيث من المفترض أن تكون حرية الوصول للمعلومات متاحة للجميع، حيث لا يستطيع أي من المتعاملين في السوق الحصول على أرباح غير اعتيادية.

فوفقا لما أعلنته وزارة العدل الأمريكية أنه من كانون الأول (ديسمبر) 2007 حتى كانون الثاني (يناير) 2013 اتفق موظفو “سيتي بنك” و”جي بي مورجان” و”تشيزو باركليز” و”الرويال بنك أوف سكوتلاند”، على التدخل في سوق النقد الأجنبي، وأطلقوا على أنفسهم اسم الكارتل أي “التكتل” واستخدموا غرفا للمحادثة ولغة إشارة خاصة بهم لكي يتلاعبوا بمعدلات الصرف الأساسية، وذلك من أجل زيادة أرباح مصارفهم من عمليات النقد الأجنبي، ولقد كان ينظر إلى غرف المحادثة على أنها نظام مغلق، حيث يقوم المتعاملون من كافة المصارف بالإفصاح عن المعلومات الخاصة بمواقفهم بالنقد الأجنبي، وفي إطار ذلك كان الموظفون يستخدمون لغة الإشارة في غرفة المحادثة لتنسيق المحاولات لتغيير معدلات الصرف في الواحدة والربع مساء والرابعة مساء كل يوم، وكان الموظفون يحجبون العطاءات أو العروض لتجنب تحريك معدلات الصرف في الاتجاهات التي من شأنها أن تضر بالمتعاملين الآخرين، وهو ما يعد خرقا خطيرا لقواعد المنافسة.

لقد تم الكشف عن هذه المخالفات في إطار صحوة بعض الدول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وسويسرا لمراقبة عمليات هذه المصارف، وفي مقابل الدلائل المستمدة من التحقيقات، اضطرت المصارف إلى الاعتراف بخرق القانون وبالتلاعب بأسعار العملات، وفي 20 أيار (مايو) الماضي تم فرض غرامات بواسطة الولايات المتحدة بقيمة 5.6 مليار دولار على خمسة مصارف، وهي بنك أوف أمريكا، يو بي إس، آر بي إس، جي بي مورجان، باركليز، وسيتي جروب، المثير للاهتمام هو أن غرامات المصارف أصبحت تمثل في الوقت الحالي مصدرا لا بأس به، فوفقا لـ “فاينانشيال تايمز” بلغت غرامات المصارف منذ 2008 حتى الآن نحو 160 مليار دولار، كذلك تشير صحيفة “الوول ستريت جورنال” إلى أن المصارف دفعت 60 مليار دولار غرامات في العامين الماضيين فقط.

الأهم في الموضوع هو أنه عندما تحقق المصارف أرباحا من مثل هذه المخالفات، وعندما تأتي الغرامات أقل من الأرباح، فإن البنك يكون قد استطاع تحقيق ربح صاف موجب من هذه العمليات غير القانونية، وبالتالي من المفترض أن ضرب رغبة المصارف في القيام بمثل هذه العمليات القذرة يقتضي أن تكون العقوبات حازمة وتتجاوز أرباحها من العمليات التي تقوم بها على النحو الذي يوجه رسالة واضحة، وهي أنه لا طائل يبتغى من العمليات غير القانونية التي ستكون مكلفة للغاية للمصرف عندما يشارك فيها. غير أن ما يحول دون ذلك هو أن القاضي يكون عادة ما يكون بين مصدرين للضغط، الأول هو الرغبة في الانتقام من مثل هذه المؤسسات في مقابل ما تقوم به من مخالفات جسيمة، لكنه على الجانب الآخر يخشى أن يترتب على العقوبات الضخمة التأثير في قدرة المصرف على الاستمرار في مجال الصناعة، مخلفا حالة من عدم الاستقرار في الصناعة المصرفية بأكملها

كشفت التحقيقات أيضا عن أن المصارف كانت تتعمد المخالفة رغم تعهداتها السابقة بالالتزام بالقانون، على سبيل المثال كان بنك يو بي إس السويسري قد تعهد أمام النيابة العامة الأمريكية في 2012 في القضية المشهورة حول التلاعب في معدل الفائدة ليبور بأن يلتزم بالقانون، ولكن هذه المرة نظر إلى قيام بعض موظفيه على أنه يعد إساءة للسلوك ويعد خرقا للمصرف لتعهده، وهو ما يضعه تحت طائلة العقاب، لتثبت أن هناك مشكلة التزام خطيرة لدى المصارف الكبرى في العالم، أو أن وحدات الالتزام في هذه المصارف لا تعمل كما ينبغي، وكأن المصارف لا تتعلم من أخطائها، أو أنها تتعمد مخالفة اللوائح والنظم التي تنظم العمل المصرفي.

من الواضح أيضا بالنسبة لهذه القضية بالذات، أن الغرامات لن تمثل نهاية المطاف بالنسبة للمصارف في هذه القضية. فالمشكلة هي أن مثل هذه الأحكام لن يقتصر تأثيرها في مجرد سداد الغرامة المالية من جانب البنك، وإنما قد تفتح أبواب جهنم على المصارف المخالفة، حيث أصبح من الممكن الآن لأي عميل يثبت تضرره في سبب هذه العمليات أن يرفع دعوى قضائية ويطالب بالتعويض المناسب. حيث أصبح أمر إثبات حدوث خسائر لأي متعامل في العملات أمرا أيسر، ومن ثم يمهد السبيل أمام الحصول على التعويض المناسب.

لقد أدت هذه الأحكام إلى إثارة ذعر المصارف، وأصبح كل مصرف يخشى أن يسرب أي معلومات عن أداء العملات في العالم، وبالتالي توقفت المصارف ليس فقط عن مد عملائها بالمعلومات الأساسية، لكنها أيضا منعت تلك المعلومات عن موظفيها الموكول لهم بالتجارة، كذلك بدأت بعض المصارف الكبرى في ميكنة عملية توافق القرارات بين المشترين والبائعين، حيث تبعد العنصر البشري بشكل كامل عن العملية، حتى لا تسمح بالتدخل البشري لتوجيه التعاملات، كما أصبحت المصارف أكثر حذرا اليوم في الإفراج عن المعلومات، والعملاء أصبحوا أقل وصولا لها، وبالتالي من المفترض أن ترتفع كفاءة عملية تحديد معدلات صرف العملات في ظل هذه الأجواء.